يمثل الاتفاق حول نشر قوة دولية تابعة للأمم المتحدة في جنوبي لبنان، إنجازاً دبلوماسياً عملاقاً لكوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، ولكل ما يتسم به من صراحة ودأب ومثابرة في العمل. بل يمثل نجاحه تأكيداً إضافياً علي أهمية المنظمة الدولية، عقب مضي عدة أسابيع علي عرقلة الولاياتالمتحدة لمشروع قرار يقضي بوقف إطلاق النار، وهي العرقلة التي أصابت مجلس الأمن الدولي بالشلل وأقعدته عن إصداره. ليس ذلك فحسب بل كان ممكناً لتلك الإعاقة توجيه ضربة قاضية للمنظمة الدولية نفسها. وبفضل استنفار كوفي عنان للدول الأوروبية، خلال اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل يوم الجمعة الماضي، وافقت كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبلجيكا وبولندا ومجموعة الدول الإسكندنافية مجتمعة، علي توفير 7 آلاف جندي للقوة الدولية التي سيجري نشرها في جنوبي لبنان، بينما يتوقع أن تسهم إندونيسيا وبنجلاديش وماليزيا ونيبال، وربما تركيا، بعدد مماثل من الجنود خلال الأيام القليلة المقبلة. هذا ومن المتفق عليه أن تتولي فرنسا قيادة هذه القوة الدولية حتي شهر فبراير من عام 2007، ثم تسلمها بعد ذلك إلي إيطاليا. وكانت إسرائيل قد هددت بالاعتراض ضد مشاركة الدول الإسلامية التي لا تربطها بها علاقة في هذه القوة، إلا أن عنان أصرَّ علي أن تكون تلك القوة مقبولة لكل طرفي النزاع، أي بالنسبة للبنان و"حزب الله" من جانب، ولإسرائيل من الجانب الآخر. والرسالة الواضحة التي تستشف من تشكيل هذه القوة الدولية من قوات أوروبية وإسلامية، ونشرها في جنوبي لبنان، هي حماية لبنان من أية اعتداءات إسرائيلية جديدة علي أراضيه، بقدر ما هي حماية لشمالي إسرائيل من هجمات "حزب الله". غير أن الحقيقة الماثلة هي أنه لم يتم بعد تحديد صلاحيات هذه القوة الدولية بما يكفي من الوضوح، ولا تزال وظيفتها فقط حفظ السلام أكثر من كونها فرضاً له، علي الرغم من تخويلها باستخدام أسلحتها في حالات خاصة، وفقاً لما تستدعيه الضرورة. وعليه فلابد من تحديد سلطاتها وصلاحياتها علي نحو دقيق وواضح ما أن يتم نشرها. وفي أثناء زيارة له لكل من روما وباريس الأسبوع الماضي، طلب كوفي عنان من "تسيبي ليفني" وزيرة الخارجية الإسرائيلية توفير ضمانات وتأكيدات قاطعة علي وقف بلاده لكل عملياتها العسكرية ضد لبنان. وكانت فرنسا وإيطاليا هما الدولتان اللتان اشترطتا هذا الشرط لمشاركتهما في القوة الدولية التي سيتم نشرها في جنوبي لبنان. وقد أكد "ماسيمو داليما" وزير الخارجية الإيطالي أن بلاده لن تشارك في القوة الدولية ما لم تتعهد تل أبيب بوقف هجماتها علي لبنان وتحترم الوقف الدائم لإطلاق النار. أما الانتكاسة الثانية التي مُنيت بها إسرائيل، فتتلخص في عجزها عن تأمين نشر قوة دولية علي الشريط الحدودي الفاصل بين سوريا ولبنان، والقصد من هذا كما يستقرأ هو الحيلولة دون إعادة تسليح "حزب الله"، غير أن كوفي عنان كان قاطعاً وواضحاً في تأكيده أن هذا مطلب متروك للحكومة اللبنانية وحدها ولا أحد غيرها. وفيما يتعلق بنشر قوة دولية علي الحدود اللبنانية-السورية، فإنه لم يتم استلام أية مطالبة كهذه من جانب الحكومة اللبنانية، طالما أنه يطيب لبيروت أن تتفادي أية علاقات كهذه مع دمشق بقدر الإمكان. ومن ناحيتها أعلنت دمشق اعتبارها لنشر أية قوة دولية علي الحدود الفاصلة بينها وبين لبنان، عملاً عدوانياً يستهدفها مباشرة. ولذلك فقد هددت بقطع إمداداتها الكهربائية للبنان، بل وحتي إغلاق الحدود تماماً، ما سيؤثر سلباً ويعيق عمليات إعادة إعمار لبنان. إلي ذلك تواجه إسرائيل ضغوطاً دولية متصاعدة عليها بغية إرغامها علي تسريع سحب قواتها من الجنوب اللبناني ورفع حصارها الجوي والبحري المفروض ليس علي لبنان وحده، وإنما كذلك علي قطاع غزة الذي تواصل قصفه وتدميره يومياً. وعلي رغم التقدم الذي أحرز علي صعيد نشر القوة الدولية في جنوبي لبنان، فإن الوضع لا يزال متفجراً ومتوتراً في كل من إسرائيل ولبنان وقطاع غزة. وفي إسرائيل مثلاً فقد أصبح لزاماً علي رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير دفاعه عمير بيريتس المكافحة من أجل بقائهما السياسي. ووفقاً لآخر استطلاعات الرأي التي أجريت هناك، فإن نسبة 63 في المائة ممن استطلعت آراؤهم تطالب باستقالتهما، جنباً إلي جنب مع رئيس أركان الحرب الجنرال "دان حالوتس". ذلك أن شعوراً عاماً ساد بين الإسرائيليين بسوء إدارة الحرب والتخطيط لها، وأن إسرائيل قد مُنيت بخسائر باهظة، مثل التي تكبدتها في حرب أكتوبر من عام 1973، وكانت هجمات "حزب الله" الأخيرة علي شمالي إسرائيل هي الأولي من نوعها في تاريخ الدولة العبرية، التي تقع فيها هجمات يومية مكثفة علي جزئها الشمالي، ما أرغم ما يزيد علي المليون إسرائيلي علي الاختباء، مخافة خطر تلك الهجمات الصاروخية المستمرة. وفي كل ذلك ما يشير إلي إخفاق إسرائيل في تحقيق الهدف الرئيسي الذي شنت من أجله حربها الأخيرة هذه علي لبنان، أي تدمير "حزب الله".