إذا كان في ديننا الحنيف مقاومة المعتدين وحماية البلاد من العدوان الخارجي هي الجهاد الأصغر، أما مقاومة النفس وإمارتها بالسوء هي الجهاد الأكبر؛ فإنه في السياسة يكون بناء الأوطان وقدراتها تصير هي أعظم أنواع الجهاد، بل أنها علي الأرجح هي الضامن للحفاظ علي الثغور والأراضي وضبط النفوس من خلال القانون العام. ومهما كان التقييم للجولة الأخيرة من الصراع العربي _ الإسرائيلي، فإن ما جري فيها وما حصلت عليه إسرائيل كان نتيجة اختلالات عظمي في توازن القوي لا تنفع معها مداورات الكلام ومناوراته. وعلي أية حال فإن المشهد المصري خلال الأزمة اللبنانية كان معتادا، فما أن نشبت المواجهة حتي ترك كل أطراف الساحة السياسية المصرية ما في أيديها من قضايا الإصلاح واندفعت لموجات متتابعة من الحروب الفضائية التي نقلت الحرب إلي داخل مصر. وأظن _ كما هو معتاد أيضا _ أن كثيرين فركوا أيديهم بسعادة بالغة لأن حديث الصلاح والإصلاح قد ذهب بعيدا، ولم يعد أحد يهتم بالشروط الديمقراطية للتعديلات الدستورية القادمة. ومع ترك الساحة فإن الفراغ دائما ما يمتلئ بقوي لم يكن الإصلاح السياسي أبدا واحدا من أولوياتها. وربما أصيب بالغبطة من قرأ واحدة من دراسات استطلاع الرأي العام التي جرت خلال شهر يوليو الماضي _ أي خلال الأزمة _ فكانت النتيجة هي أن 11% فقط من المصريين يعتقدون في أن الديمقراطية قضية هامة، أما 1% فقط فقد كانوا يضعون التعديلات الدستورية في دائرة الاهتمام. وببساطة أصيبت الأمة بحالة من الغيبوبة الديمقراطية التي دخلته باختيارها أحيانا، وبحكم العادة في أحيان أخري، وحدث ذلك في الوقت الذي كانت تعد فيه التعديلات الدستورية والقوانين الخاصة بالانتخابات ومحاربة الإرهاب. وبصراحة تامة فسوف يكون الأمر في عداد الكارثة السياسية إذا كان ما أعلنه الدكتور فتحي سرور _ رئيس مجلس الشعب _ في الصحافة المصرية ونشر في صباح الحادي والعشرين من أغسطس الجاري صحيحا بأن التعديلات الدستورية لن تمس المادة الثانية والخاصة بالشريعة الإسلامية، ولا المادة 76 الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، ولا المادة 77 الخاصة بفترات انتخاب، ولا المادة الخاصة بنسبة الخمسين في المائة من العمال والفلاحين. وسوف يكون الأمر نوعا من النكسة لعملية الإصلاح كلها إذا ما اقتصرت التعديلات علي نقل بعض سلطات رئيس الجمهورية لرئيس الوزراء، أو هي في الحقيقة بمثابة إعطاء رئيس الوزراء فرصة المشاركة لرئيس الجمهورية في عدد محدود من القرارات، أو حتي إذا ما تم إعطاء مجلس الشعب عددا من الاختصاصات الإضافية. وربما كان مفهوما بقدر غير قليل من سعة الصبر تجنب الخلافات الفكرية والسياسية فيما يتعلق بالمادة الثانية من الدستور، ولكنه من المستحيل تجنب خيبة الأمل الكبيرة إذا لم يتم التعرض للمادة 76 التي شلت فاعليتها تماما بسبب القواعد التي وضعت فيها، وما جري في الانتخابات الأخيرة، والتي جعلت المادة غير قابلة للتطبيق خلال المرحلة الحالية. وبدون التعرض والتعديل والتغيير في المادة 77 بحيث تحدد فترات بقاء الرئيس في السلطة كما كان الحال في الدستور قبل تعديل هذه المادة في عام 1980 ، فإن تداولا سلميا للسلطة لن يكون ممكنا. وإبقاء المادة الخاصة بالعمال والفلاحين علي ما هي لا تخالف فقط المنطق في مجتمع ديموقراطي، ولا تعارض مقتضي الحال في مصر خلال هذه المرحلة، ولا تختلف مع التوجه العام الخاص بالمداولات السياسية حول تعديل الدستور قبل أن تختطفها الأزمة اللبنانية، وإنما سوف تكون إشارة علي عدم صدق النية لا من قبل الحكومة ولا من قبل الحزب الوطني الديمقراطي علي الإصلاح السياسي. أما إذا كان جل الإصلاح هو تغيير المواد الدستورية الخاصة برقابة القضاء علي الانتخابات بحيث يتم تقليص دور السلطة القضائية فإن معني ذلك هو أن التعديلات الدستورية لن تكون خطوة إلي الأمام وإنما خطوة إلي الخلف. لقد سبق لي في أكثر من مكان شرح الحاجة إلي ضرورة حدوث تغييرات جوهرية في الدستور المصري، مع التفضيل الكامل لتغيير الدستور كله، كما سبق لي أن أبديت تحفظات علي دور السلطة القضائية في الانتخابات، ولكن في ظل الغياب الحالي للمصداقية لدي الحكومة، ولدي القوانين المنظمة للعملية السياسية والانتخابية والتي تجعل الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي رئيسا للجنة الأحزاب، ووزير العدل في حكومة حزب الأغلبية رئيسا للجنة الانتخابات النيابية، فإن رفع يد القضاء عن الانتخابات سوف يجعلها مهزلة سياسية من الطراز الأول. إن ما سمعناه من الدكتور فتحي سرور عن التعديلات الدستورية المصرية القادمة لم يكن فيها خبر سعيد واحد، وإذا كان فكره هو السائد فإننا نصبح مقبلون علي خيبة أمل واسعة. ولا أدري شخصيا لماذا كان رئيس مجلس الشعب هو المنوط به الإعلان عن التعديلات الدستورية، ولماذا لم يقم بهذه المهمة السيد صفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي، أو حتي السيد جمال مبارك أمين لجنة السياسات، باعتبار طرح كلاهما سوف يعني فتح باب النقاش المجتمعي حول هذه القضية الهامة، أما أن يكون مصدر الإعلان هو رئيس مجلس الشعب الذي عليه إقرار هذه التعديلات ومناقشتها فإن معني ذلك هو أنه لم يعد هناك ما يقال أو يناقش أو يعترض عليه. وإذا كان ذلك كذلك فقل علي مصر السلام، وفي يوم من الأيام سوف تأتي مصر أجيال لن تسامح أبدا الذين وقفوا أمام الإصلاح السياسي في هذه المرحلة، كما أنها لن تغفر أبدا للصامتين حين وجب الكلام!