ويليام فاف لكلٍ من تمريغ أنف إسرائيل في الوحل اللبناني والمأزق الأمريكي في العراق منبعٌ واحدٌ. ولذلك فإن من الأرجح أن تسود الأوهام ذاتها التي صاحبت كيفية التعامل مع القوي الجديدة في الشرق الأوسط، محدثة معها المزيد من التداعيات والعواقب الوخيمة، فيما لو تقرر توجيه ضربة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية لإيران. وغالباً ما يسود الإصرار علي تكرار الخطأ بما يكفي، خاصة إذا ما كان هذا الإصرار يعكس رغبة مهنية أو يعبر عن تحيز ما، أو كان شكلاً من أشكال التشوه المهني. ومن ذلك مثلاً الاعتقاد السائد لدي كل من الجنرالات والقادة العسكريين الأمريكيين والإسرائيليين بأن في مقدور القصف الجوي وحده، تحقيق النصر علي العدو. وليس هذا الاعتقاد أمراً ثانوياً أو مستصغراً بأي حال من الأحوال، طالما ظلت واشنطن وتل أبيب علي إدمانهما المفرط لاستخدام القوة الجوية في المعارك والحروب، بصرف النظر عما يترتب علي ذلك الاستخدام من قتل وفتك بالمدنيين العزّل دون تمييز أو اعتبار. والواضح أنهاتين الدولتين لا ترغبان في التخلي عن تعويلهما علي القوة العسكرية، حتي وإن جاءت نتائجها مدمرة وكارثية، كما هو الحال في لبنان. وإنه لمن الخطأ الفادح دائماً أن ينصَّب ضابط في سلاح الطيران رئيساً لأركان الحرب، كما فعلت إسرائيل. وقد كان الوهم العسكري الذي أحاط بهذه الحرب الأخيرة في صيغة "حرب خاطفة رخيصة، سرعان ما تنتهي وتستخلص دروسها لتوجيه ضربة لإيران". وكان قد جري تكريس عقيدة اليد العليا لسلاح الطيران في الحروب بعناد الجنرالات المستمر منذ عام 1921، وهو التاريخ الذي نشر فيه "جيليو دوهي" المنظِّر الإيطالي للقوة الجوية كتابه "القيادة الجوية"، بيد أن هذه العقيدة كثيراً ما ثبت خطؤها. ولعل القنبلة الذرية كانت قد بدت وكأنها وعد جديد للهيمنة الحربية لسلاح الطيران. لكن وعلي رغم نجاح استخدامها في كل من هيروشيما وناجازاكي في وضع حد نهائي للحرب العالمية الثانية، لاسيما وأن اليابان قد أُنهكت براً، بينما تلقت هزائم ماحقة بحراً وجواً، فإنه ما من أحد جرؤ علي استخدام السلاح النووي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، والسبب هو أنه ما من حكومة باتت علي قناعة بإمكانية إحرازها نصراً عسكرياً بواسطة السلاح النووي، دون أن يحسب ذلك الفوز هزيمة سياسية لها. لكن علي رغم ذلك فإن هناك من العناصر في وزارة الدفاع الأمريكية اليوم - ولاشك في غيرها من وزارات دفاع دول أخري- من لا تزال تحلم بإضفاء "شرعية" علي استخدام السلاح النووي، عن طريق البرهنة علي إمكانية خوض حرب نووية قادرة علي فرز أهدافها والتمييز بين من تستهدفهم. من ذلك مثلاً قول البعض بإمكانية تدمير المرافق والمنشآت النووية الإيرانية نووياً. ثم هناك التشوه الأشد خطراً ودماراً في الفكر السياسي العسكري المعاصر، علي نحو ما نري في كل من غزة ولبنان. وهو تشوه أيديولوجي الأصل والمنبت ويقوم علي رؤي سطحية ساذجة تبسيطية لعلاقات القوي العالمية ولجدوي العمل العسكري. وهي لاشك رؤي شمولية متطرفة في اختلاقها الذرائع والأوهام التي تبرر بها عملياتها الجارية علي الأرض، ظناً منها أنه في الإمكان قسر تلك الأوهام حتي تبدو حقيقة عينية ماثلة. ومن ضروب هذا الوهم، فقد أقدمت إدارة بوش علي غزو العراق ظناً منها أنه دولة إرهابية وأنه فيما لو تم تحريره من قبضة النظام المستبد المتحكم فيه، فإن ذلك سيدفع به تلقائياً باتجاه التحول ليصبح دولة ديمقراطية في المنطقة. ولكن الذي تحقق عملياً علي الأرض، هو الجزء الأول من هذا الوهم، القائل إن العراق دولة إرهابية. والشاهد أن العراق قد تحول إلي بؤرة من بؤر الإرهاب الدولي بسبب هذا الغزو، بل بات العراق يمثل تهديداً فعلياً لجيرانه وللمنطقة بأسرها، علي النحو ذاته الذي ذهب إليه الشق الأول من الأسطورة. وبالنتيجة فقد تشرذم العراق وانفرط عقده الاجتماعي، بينما جري تدمير بنيته التحتية الصناعية، وأزهقت فيه أرواح آلاف المواطنين هباءً. وفي المقابل كان المجتمع الدولي قد صعّد ضغوطه ومطالبته للفلسطينيين بعملية الإصلاح السياسي، وانتخاب حكومة ديمقراطية شرعية لهم. وما أن فعل الفلسطينيون ذلك عبر انتخابهم لحكومة "حماس"، حتي توقفت المساعدات المالية التي كان يقدمها للسلطة الفلسطينية كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدةالأمريكية. بل جري حجز أموال السلطة وأوقفت المساعدات الغذائية والإنسانية عن الفلسطينيين عقاباً لهم علي انتخابهم لحركة "حماس". ومن منابع الأوهام والأساطير ذاتها، جري تخطيط وتنفيذ الحرب الإسرائيلية الأخيرة علي لبنان، بالتنسيق مع بعض دوائر "المحافظين الجدد" في واشنطن علي أمل أن تكون هذه الحرب بمثابة "بالونة اختبار" لتوجيه ضربة جوية خاطفة لإيران. وعلي حد قول "سيمور هيرش" وغيره من المصادر العليمة في واشنطن، فقد جري تنسيق وترتيب هذه الهجمة الجوية علي لبنان، دفعاً