يرمي العدوان الاسرائيلي الي تدمير بيئة المقاومة بهدف مزدوج: الحد من فعالية المقاومة المسلحة والنيل من قوة الصمود الوطني اللبناني العام. وما يراد حدوثه علي أرض لبنان هو تحويله الي بلد متوسطي "محايد"، أشبه ما يكون بإمارة ملذات وصفقات وسمسرات، بلا دولة وطنية وبلا مقاومة وبلا هوية. لكن ما حدث خلال هذه الحرب الهمجية أعطي فرصة تاريخية للبنانيين كي يتجاوزا خطرين حاسمين: انقسام المجتمع الوطني وانقسام الدولة الطوائفية. فقد نجح اللبنانيون حتي الآن في الصمود وراء مقاومتين متلازمتين: مقاومة العدوان بسلاح غير متكافئ، ومقاومة الانقسام الداخلي بوحدة اجتماعية، أساس كل وحدة سياسية وكل دولة وطنية موحدة. كان "بنك الأهداف" الأمريكية الاسرائيلية يرمي في المقام الأول الي عزل اللبنانيين عن بعضهم، انطلاقا من انقسام سياسي حاد، كاد "الحوار الوطني" يحتوي عليه او ان يؤجل انفجاره الداخلي عشية حرب 12 يوليو. وكان يريدها حربا خاطفة ترمي من وراء إسقاط المقاومتين، الي فصل لبنان عن محيطيه العربي والاسلامي المناوئين للسياسة الامريكية الاسرائيلية في الشرق الأوسط الكبير و"الجديد" بوقوعه تحت احتلالات. فإذا كانت المقاومة قد انتصرت في العام ,2000 فإن المخطط الامريكي الاسرائيلي رمي الي تدميرها عام ,2006 وإنتاج نظام سياسي كومبرادوري، بكل المعاني القوية للدولة التابعة. ولكن الشعب اللبناني، المرشح في المخطط كي يأكل بعضه، أدرك بتجاربه علي مدي 40 عاما من مقاومة أمريكا والعدوانية الاسرائيلية، ان محاربة العدو أقل كلفة وأجدي وطنيا من الاقتتال الداخلي. وعليه، إذا كان اللبنانيون لم يرغبوا في هذه الحرب، ولم يقرروها سياسية، فإنهم لم يتخلوا عن وطنيتهم ولا عن مواطنيهم المقاومين والمهجرين بقوة التدمير والاغتيالات الجماعية للمدنيين. وما لا شك فيه ان صمود المقاومين شكل نصرا سياسيا، معنويا، لإرادة البقاء والنجاة. وحول هذه النواة الصلبة تشكل فجأة "وعي" سياسي مختلف عما كانت عليه الحال قبل الحرب، حيث كان ثمة بيئتان وثقافتان وسياستان متعاكستان. فلم تكن البيئة الاجتماعية اللبنانية مجهزة كلها لمقاومة العدوان الاسرائيلي المبرمج أمريكيا، وكانت ثقافة المقاومة المسلحة محصورة بالطائفة الحدودية، فيما الطوائف الاخري تحمل ثقافة الدولة المؤجلة، وكانت السياسة اللبنانية نهب استقطابات اقليمية ودولية تعكس نفسها سلبا علي الرأي العام اللبناني وعلي مشروع الدولة المنشودة نفسها. والآن، نحن أمام مقاومتين متلازمتين في هذه الحرب: مقاومة عسكرية في بيئة شبه مدمرة، شبه مفرغة بشريا، ومقاومة اجتماعية في بيئة وطنية عاما، تزداد اكتظاظا بالنازحين الذين بات بعضهم الكثير بلا بيوت، بلا موارد، بلا حياة اجتماعية طبيعية، وفي الوقت نفسه تزداد افتقارا الي مقومات الترابط الاجتماعي والسياسي في ما بينها، خصوصا في ظروف تقطيع أوصال الدولة اللبنانية ذاتها، المدمرة البني، والمحدودة الفعالية سياسيا واقتصاديا.