في وقت تتفاوض فيه إدارة بوش بشأن حل دبلوماسي يروم إنهاء الاقتتال في الشرق الأوسط، تكتشف أنها ليست في موقع قوة. فالحرب في العراق، والدور الأمريكي المتردد في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، والاقتتال المتواصل اليوم في لبنان وإسرائيل جميعها عوامل أدت إلي تنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة في العالم العربي. كما أن التحالفات مع الأصدقاء العرب تشهد توترا حقيقياً، هذا فضلا عن أن الولاياتالمتحدة تفتقر إلي علاقات مع لاعبين إقليميين رئيسيين: هما إيران وسوريا. تقول "نانسي سوداربورغ"، السفيرة الأمريكية إلي الأممالمتحدة في عهد الرئيس كلينتون، "تمثل أزمة لبنان نهاية الأسطورة المتمثلة في أننا نستطيع أن نقول للعالم ما ينبغي عليه فعله، وسيمتثل"، مضيفة "عليهم أن يقوموا بدبلوماسية حقيقية". ومما يزيد من صعوبة التحدي المطروح علي واشنطن نقص التجربة، ذلك أنه بالرغم من خمس سنوات ونصف السنة في السلطة، فإن فريق الرئيس بوش المكلف بالسياسة الخارجية لم يتدخل سوي في القليل من المفاوضات بالمنطقة. لقد كانت مسودة القرار الأممي التي تمكنت الولاياتالمتحدة وفرنسا من صياغتها بمشقة الأنفس خلال نهاية الأسبوع تمثل أول جهد يروم وضع حد للاقتتال في لبنان وإسرائيل. غير أن التوصل إلي توافق بشأنها تطلب أسبوعاً كاملاً بالرغم من تأكيدات المسؤولين الأمريكيين المتكررة علي أن التأخر إنما مرده إلي اختلاف حول التفاصيل، ليس إلا. والحال أن العديد من المدنيين اللبنانيين تعرضوا ذلك الأسبوع للقتل، ما دفع الكثيرين في المنطقة إلي القول إن الولاياتالمتحدة لا تأبه كثيرا بأرواحهم. منذ أن احتلت القوات الأمريكية بغداد في ربيع 2003، تبدد الخوف من قوة الولاياتالمتحدة العسكرية في وقت عجزت فيه قواتها عن ضبط حركة التمرد أو القضاء علي العنف الطائفي المتزايد في العراق. وكان من نتائج ذلك أن تأثرت هالة الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة الكاملة، ومعها تأثرت قدرتها علي حمل الآخرين علي الامتثال لإرادتها. إن الدبلوماسية الناجحة تقتضي القدرة علي التوسط بين عدوين علي أساس أن يكون الوسيط محل ثقة كلا الطرفين ويتوفر علي ما يكفي من القوة المعنوية والعسكرية لفرض احترام الاتفاق. والواقع أن جهود الولاياتالمتحدة في الآونة الأخيرة اعتمدت كثيرا علي القوة، إلا أن انتصاراتها العسكرية لم تعمر طويلا ولم تفلح في جلب الديمقراطية التي تم التبشير بها. والحقيقة أن إدارة بوش تواجه اليوم مستوي غير مسبوق من المشاعر المعادية للولايات المتحدة في العالم العربي، ويعود ذلك في جزء منه إلي صورتها كمؤيد دائم لإسرائيل وأحاديث عن حالات تعذيب وتنكيل لمعتقلين مسلمين علي يد الأمريكيين في أماكن مثل خليج جوانتانامو بكوبا وسجن أبوغريب بالعراق. وفي هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة زغبي الدولية قبل ثمانية أشهر في مصر، التي تعد واحدة من حلفاء الولاياتالمتحدة، أن نحو 3 في المئة فقط من المستجوبين يحملون رأيا "إيجابياً جداً" حول الولاياتالمتحدة، في حين يحمل 71 في المئة منهم آراء "سلبية جداً". أما النتيجة فهي تراجع المساعي السياسية والسلطة المعنوية، وكلاهما عنصران مهمان في التأثير الدبلوماسي الذي طالما توفرت عليهما الولاياتالمتحدة. وعلي هذه الخلفية المضطربة، يمكن القول إن من شأن حملة دبلوماسية أمريكية تقوم علي تفاوض حقيقي بهدف تغيير خريطة "الشرق الأوسط الكبير" أن تشكل سابقة بالنسبة لبوش. فرغم أنه لم يقم بتغيير الأوضاع السياسية في الشرق الأوسط سوي عدد قليل من الرؤساء الأمريكيين مقارنة مع بوش، فإن القليل فقط مما قام به بوش علي هذا الصعيد جاء نتيجة توافقات ومفاوضات. فالتحول السياسي في العراق، شأنه في ذلك شأن أفغانستان، جاء عقب غزو عسكري. وجاءت نهاية الوجود العسكري السوري في لبنان علي إثر الضغط الدولي الذي أعقب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. كما أن الاعتماد التدريجي للتعددية السياسية في بلدان مثل مصر جاء نتيجة خطاب واضح وحث سياسي حازم. إلي ذلك، لم يلجأ البيت الأبيض في تعاطيه مع النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي الطويل إلي مبعوث أمريكي خاص أو جولات دبلوماسية مكثفة من قبيل تلك التي كانت تقوم بها الإدارات الأمريكية السابقة لتحقيق اختراقات. وبدلاً من ذلك، اختار بوش تأييد الخطوات أحادية الجانب التي خطاها رئيس الوزراء الإسرائيلي أريل شارون في اتجاه تأسيس دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفق الشروط الإسرائيلية. ينظر البيت الأبيض إلي النزاع في المنطقة باعتباره نزاعا بين قوي الخير والشر_ أو بين الحرية والإرهاب. وإذا ما أضفنا إلي ذلك إحساس بوش بمهمة الدفاع عن إسرائيل ونشر الديمقراطية في المنطقة، فإن ذلك لا يتيح مجالا كافياً -في رأي الخبراء- لحدوث توافقات من قبيل تلك التي تتطلبها الدبلوماسية الفعالة. والواقع أن الإحساس بأن تأييد بوش القوي لإسرائيل كلف الولاياتالمتحدة سمعتها باعتبارها وسيطا نزيها بين العرب والإسرائيليين كان وراء تقديم بعض من الخبراء في شؤون العالم العربي بوزارة الخارجية من ذوي الحنكة والكفاءة استقالاتهم وترك الحكومة، في حين تم نقل آخرين ممن اتهموا بالتعاطف مع وجهات النظر العربية إلي مسؤوليات أخري. وبغض النظر عن فريق السياسة الخارجية الذي تستعين به الولاياتالمتحدة، فالأكيد أن ممارسة التأثير لن تكون مهمة سهلة. ففي البداية، ساور القلق إيران وسوريا بعد الغزو الأمريكي للعراق من أن يكونا التاليين علي القائمة، إلا أنهما اليوم لم يعودا يريان هذا الخطر. وعلي نفس المنوال، عمدت منظمات إسلامية مثل "حزب الله" و"حماس" إلي الحد من أنشطتها بعد الغزو وتحدثت عن الانضمام إلي العملية السياسية. وهاهي اليوم تستأنف القتال. ثم إن الإحساس باللامبالاة الأمريكية تجاه معاناة العرب لم تزد إلا قوة وصلابة في الصراع الأخير بعدما رفضت الإدارة الأمريكية دعوات إلي وقف فوري لإطلاق النار بدون قيد أو شرط، مشددة علي أن يحمل أي وقف رسمي للاقتتال ملامح تسوية سياسية دائمة. ورغم أن رايس وآخرين دافعوا عن الخطوة باعتبارها ضرورية لإنهاء دورة العنف، غير أنها اعتبرت في العالم العربي وأماكن أخري تكتيكاً يروم منح إسرائيل مزيداً من الوقت لتقليص قدرات "حزب الله" القتالية. إن توتر العلاقات مع البلدان العربية الصديقة، والافتقار إلي علاقات حقيقية مع إيران وسوريا و"حزب الله" _وجميعهم لاعبون رئيسيون في الأزمة- عاملان قلصا كثيرا قوة الولاياتالمتحدة الدبلوماسية مع البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يقول دبلوماسي بالأممالمتحدة طلب عدم الإفصاح عن اسمه "لم تعد الولاياتالمتحدة موضع ثقة كوسيط في ذلك الجزء من العالم"، مضيفا "لقد كانت ثمة أيام تعرف رحلات مكوكية للسفراء إلي المنطقة، وكانوا يبدون اهتماما أكبر بالمشكلة الفلسطينية. أما اليوم، فقد حرقوا جسورهم مع المنطقة. لقد بدأ الأمر بالعراق، وتكرس في ضوء قلة الاهتمام بالمسار الفلسطيني، واليوم بلبنان".