تشبه منطقة الشرق الأوسط صندوق بارود علي وشك الانفجار، يحيط به من كل جانب مجموعة من اللاعبين يتربصون الدوائر بأعدائهم وينتظرون الفرصة المواتية لإطلاق جحيم الدمار علي بعضهم البعض. فإسرائيل تعاني من نقطة ضعف أساسية لا تلبث أن تثير موجات متكررة من العنف بين الفينة والأخري متمثلة في احتجازها للمعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين في سجونها منذ وقت طويل. كما أن المناضلين الفلسطينيين واللبنانيين تعلموا من خلال التجارب السابقة أن أسر جندي، أو مدني إسرائيلي، إما أنه يقود إلي رد عنيف وتوسيع رقعة العنف، أو أنه يكون ورقة فاعلة للتفاوض من أجل إطلاق أسراهم لدي إسرائيل. وتستند هذه الفكرة إلي العديد من المبادلات السابقة، كان أهمها إطلاق سراح 1150 معتقلاً عربياً، أغلبهم من الفلسطينيين مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين عام 1998، والإفراج عن 123 لبنانياً مقابل رفات جنديين إسرائيليين عام 1996. وجاء آخر تبادل للأسري في عام 2004 عندما أطلقت السلطات الإسرائيلية سراح 433 فلسطينياً مقابل الإفراج عن رجل أعمال إسرائيلي، ورفات ثلاثة جنود إسرائيليين. ولا شك أن هذه التجارب الناجحة في تبادل الأسري هي أحد الأسباب وراء تجدد العنف في شهر يونيو الماضي إثر قيام الفلسطينيين بعملية جريئة، تمكنوا خلالها من حفر نفق أسفل الحاجز الذي يحيط بغزة وأغاروا علي موقع عسكري إسرائيلي ما أسفر عن مقتل جنديين وأسر ثالث. ومباشرة بعد العملية أعلن الفلسطينيون رغبتهم في مبادلة الجندي الأسير ب 95 امرأة و313 طفلا معتقلين في السجون الإسرائيلية ضمن 10 آلاف أسير عربي آخر في السجون الإسرائيلية. بيد أن تل أبيب التي اعتادت إجراء تبادل الأسري، رفضت ذلك هذه المرة وشنت هجوماً كاسحاً علي غزة في محاولة للإفراج عن الجندي ووقف إطلاق الصواريخ التي تستهدف إسرائيل. وقد رأينا كيف أن القصف الإسرائيلي سرّع في توصل الفصائل الفلسطينية المتصارعة إلي اتفاق وحشد التأييد العربي لصالحهم. بعد ذلك قامت عناصر "حزب الله" بتنفيذ هجوم مشابه في شمال إسرائيلي سقط فيه جنديان إسرائيليان وأسر آخران، حيث أصر الحزب علي ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية وإجراء تبادل تفرج إسرائيل بموجبه عن آلاف الأسري اللبنانيين في السجون الإسرائيلية. فما كان من الدولة اليهودية التي تدعمها الولاياتالمتحدة إلا إمطار لبنان بالصواريخ والقنابل لكي يرد "حزب الله" باستهداف المدن الواقعة في شمال إسرائيل. وإذا كنا لا نجادل في حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها والتصدي للهجمات التي تستهدف المدنيين، إلا أنه أمر منافٍ للإنسانية وذو نتائج عكسية أن يصار إلي معاقبة المدنيين اللبنانيين علي أمل أن يلوم الشعبان "حزب الله" و"حماس" علي استفزاز إسرائيل واستجلابهم الويلات والخراب. والواقع أن الاستعمال المفرط للقوة من قبل الجيش الإسرائيلي والإمعان في قتل المدنيين زاد من شعبية "حماس" و"حزب الله" في العالم العربي وألهب مشاعرهم المدنية والناقمة علي إسرائيل والولاياتالمتحدة. ومؤخراً، وبعد تلكؤ واضح، استجابت إسرائيل للضغوط الدولية الناجمة عن هجومها الأخير علي بلدة قانا اللبنانية التي ذهب ضحيتها 57 مدنياً ووافقت علي وقف إطلاق النار لمدة يومين دون أن تنفذه فعلياً. وكما في المرة السابقة التي تعرضت فيها قانا لهجوم إسرائيلي أسفر عن مقتل 106مدنيين، قبل عشر سنوات، سمعنا هذه المرة أيضاً عبارات الأسف العميق من إسرائيل ووعودها بفتح تحقيق في الموضوع مصحوبة بتبريرات تشير إلي توزيع الجيش الإسرائيلي لمناشير تطلب إلي العائلات في المنطقة مغادرة بيوتهم. ما هو مطلوب اليوم في لبنان علي نحو مستعجل هو وقف إسرائيل لهجومها علي المدنيين وبسط الجيش النظامي لكامل سيطرته علي المناطق الجنوبية للبلاد، ثم توقف "حزب الله" عن لعب دور القوة المنفصلة عن الجيش اللبناني، وأخيراً إيجاد آلية تضمن عدم تجدد الهجمات علي شمال إسرائيل. ولتحقيق هذه الأهداف لا بد لإسرائيل أن تنسحب من كامل الأراضي اللبنانية، بما فيها مزارع شبعا، والإفراج عن المعتقلين. ومع أن الحل واضح، رفض إيهود أولمرت في تصريح له أي وقف لإطلاق النار متوعداً بالمزيد من العنف والدمار. وما لم يتحرك المجتمع الدولي في اتجاه إقرار الحل سالف الذكر، لن يتمكن مجلس الأمن من إحلال السلم في المنطقة حتي ولو أصدر قراراً يطالب بوقف إطلاق النار وأغفل باقي القضايا المرتبطة بحل شامل. فالمأساة الحالية في الشرق الأوسط واستمرار اندلاع العنف دون توقف، إنما هو ناتج عن غياب تسوية شاملة تعالج جميع القضايا العالقة. وقد زاد من تأجج العنف غياب جهود حقيقية للوصول إلي تسوية تأخذ في عين الاعتبار مطالب جميع الأطراف. يضاف إلي ذلك أن القادة السياسيين علي الجانبين، يتجاهلون أغلبية الرأي العام في بلدانهم والتي تتوق إلي السلام، بل يعملون في المقابل علي تعزيز موقف المتشددين الذين يعرقلون أية فرصة للوصول إلي اتفاق سياسي يوقف العنف وينهي الصراع. فالإسرائيليون متوجسون ويتشبثون بالأمل الكاذب من أن حياتهم ستكون أكثر أمناً من خلال سياسة الانسحاب التدريجي من الأراضي المحتلة، بينما يري الفلسطينيون كيف أصبحت مناطقهم مجرد أراضٍ مهمشة محاطة بجدار عازل يحرج أصدقاء إسرائيل في حين يعجز عن ضمان الأمن والطمأنينة للإسرائيليين. ولم يعد خافياً علي أحد الشروط الواجب توفرها لتحقيق هدف الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية. هذا الهدف الذي لن يتم التوصل إليه في هذه المنطقة المضطربة مادامت إسرائيل تنتهك قرارات الأممالمتحدة، إلي جانب السياسة الأمريكية الرسمية والقانون الدولي من خلال استمرار احتلالها للأراضي العربية وقمع الشعب الفلسطيني. وباستثناء بعض التعديلات الطفيفة التي سيتم الاتفاق عليها بين الجانبين علي إسرائيل أن تنسحب إلي حدود 1967 وتكف عن شن الحروب ضد أعدائها.