كثيرا ما تصور المقالات الصحفية التي تتناول الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصر الله علي أنه القائد العربي "الأكثر حنكة" في المنطقة، وأنه "خبير استراتيجي". وهنا أود أن أختلف قليلاً وأرسم صورة مغايرة، فما أن ينجلي غبار المعركة حتي يذكر الناس "نصر الله" علي أنه أحد الزعماء العرب المتشددين علي شاكلة جمال عبد الناصر الذي أخطأ حساباته هو الآخر وقاد بلاده إلي كارثة حرب الأيام الستة. أجل أعرف أني مفرط في عقلانيتي كصحفي غربي، وربما لا أفهم العقل الشرقي والنصر العاطفي الذي سيجنيه "نصر الله" من كل هذا العناء. ففي المحصلة النهاية ليس مهما أن تنتصر أو تنهزم بقدر ما هو مهم أن تقتل اليهود وتسحقهم كما يري ذلك "حزب الله". لكن ما من حرب تخاض دون أهداف سياسية يرجي تحقيقها في النهاية، وما من حرب تخاض دون جرد للحساب في الأخير. فقد أوقف نصر الله مسيرة الديمقراطية العربية الوليدة. وعلي ذكر الديمقراطية يجب ألا يغيب عن أذهاننا استفادة الأحزاب الإسلامية نفسها من الزخم الذي خلقته للصعود إلي السلطة. فقد استطاع "حزب الله" للمرة الأولي الحصول علي منصبين وزاريين في الحكومة اللبنانية، كما نجحت "حماس" عبر انتخابات ديمقراطية رعتها أمريكا في الوصول إلي السلطة. وفي كلتا الحالتين كما في حالة الأحزاب الإسلامية في العراق نجح الإسلاميون في تقلد المناصب الوزارية والمشاركة في الحكومة وفي الوقت نفسه الحفاظ علي ميليشياتهم الخاصة. لكن ما أظهرته "حماس" و"نصر الله" عبر جر بلديهما إلي حروب غير ضرورية مع إسرائيل هو عجز الإسلاميين عن تحمل المسئولية حتي بعد حيازتهم السلطة السياسية، وصعوبة محاسبتهم علي تدمير مجتمعاتهم عبر الحروب المجانية. فقد برهنوا ليس فقط علي فشلهم في معالجة المشاكل المجتمعية، بل أيضاً ساقوا بلدانهم إلي أتون حروب مدمرة. لكن هل يعني ذلك أن "حزب الله" و"حماس" لن يحصلا علي أصوات جديدة؟ بالطبع سيحصلان علي المزيد منها ما دام أتباعهما موجودين، كل ما هنالك أنه علي جميع التيارات الإسلامية بدءاً من "الإخوان المسلمين" في مصر والإسلاميين في الأردن والخليج أن يودعوا آمالهم في الوصول إلي السلطة عن طريق الانتخابات. فمن الآن فصاعداً لن تسمح أية حكومة في المنطقة بإجراء انتخابات تقود الإسلاميين إلي السلطة، ولا أعتقد بأن الولاياتالمتحدة ستستمر في دعم الديمقراطية في المنطقة العربية. فإذا لم يكن الإسلاميون أهلا للثقة كما ظهر ذلك مع "حزب الله" و"حماس"، فإن الانتخابات أيضاً في هذه الحالة ليست أهلا للثقة. وبسبب ذلك لا بد أن الحكام الديكتاتوريين في العالم العربي يلهجون بالشكر لحسن نصر الله ويعبرون عن امتنانهم العميق لسياسته. وحتي بعدما انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان وقطاع غزة ماذا كان رد فعل "حزب الله" و"حماس"؟ هل بنيا المدارس وشقا الطرق وخلقا الوظائف في أراضيهما المُستَرجعة؟ كلا. هل احترما الحدود واستمرا في مطالبة إسرائيل بالانسحاب من الضفة الغربية؟ كلا. كان الرد هو قصف إسرائيل من قطاع غزة وخطف الجنود الإسرائيليين من لبنان، واستبدلت صيغة "الأرض مقابل السلام" بصيغة "الأرض مقابل الحرب". وبإقدامهما علي ذلك ضمنا عدم انسحاب أية حكومة إسرائيلية من الضفة الغربية مخافة أن تنزل قذائف العناصر الفلسطينية المسلحة علي تل أبيب. وهكذا أعادت "حماس" وحسن نصر الله فكرة "العمق الاستراتيجي" إلي التفكير الإسرائيلي بعدما أوشكت علي الاختفاء بعد انسحابها من قطاع غزة. ولا بد في هذه اللحظة أن المستوطنين اليهود في الضفة الغربية يشكرون "حسن نصر الله" لتعزيز موقفهم وإطالة أمدهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وحتي إذا لم يكن نصر الله يهتم كثيرا بالديمقراطية، أو بالدولة الفلسطينية لا بد أنه يهتم لمكانته الشعبية. فبينما أدت مغامرته الأخيرة إلي إلحاق دمار كبير بلبنان، لا يطال إسرائيل إلا جزءا بسيطاً من الضرر. فقد شن "حزب الله" حرباً بالوكالة عن إيران لا قبل له بها خربت البلد وأعادتها عقوداً إلي الوراء في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل. وأفضل ما يمكن أن يطمح إليه "حزب الله" اليوم هو وقف إطلاق النار مشروط بابتعاد ميليشيات الحزب عن الحدود الجنوبية مع إسرائيل. واللافت أن إيران التي شجعت "حزب الله" علي قصف إسرائيل لردع الغرب ومنعه من استهداف برنامجها النووي خسرت كثيراً بمغامرة نصر الله التي كشفت ورقة الحزب وأضعفت قدرته علي الردع. فهل تستطيع أمريكا الاستفادة من حماقة نصر الله؟ بالنسبة لي أعتبر أن الحركة الاستراتيجية المهمة علي رقعة المنطقة في هذه المرحلة هي السعي إلي عزل سوريا عن إيران واستعادة دمشق إلي حظيرة الدول العربية السنية. لكن ما هو الثمن الذي ستدفعه سوريا مقابل ذلك؟ لا أعرف علي وجه التحديد، إلا أن هناك العديد من الأمور المهمة التي يمكن النقاش حولها. فسوريا علي كل حال تستضيف فوق أرضها قيادة "حماس"، كما أنها الجسر الذي يربط إيران "بحزب الله" الذي من دونه لا يستطيع الاستمرار علي قيد الحياة، فضلا عن أنها الملاذ الآمن للمتمردين العراقيين من حزب البعث. وإلي جانب أمريكا هناك الدول العربية الأخري مثل السعودية ومصر والأردن التي تريد مناقشة العديد من القضايا مع سوريا، لا سيما الدور الذي تلعبه دمشق في تمهيد الطريق أمام إيران الشيعية للهيمنة علي السياسة العربية. وبالطبع أنا أنتظر باهتمام رد دمشق علي المبادرات الأمريكية والسعودية مثل تلك التي انتهت بتخلي ليبيا عن برنامجها النووي. لكني لست متأكدا من الرد السوري، ولا من أن فريق الرئيس بوش سيحرك خيوط اللعبة بذكاء، وهي اللعبة التي في حال إتقانها ستكون بمثابة أم الهزائم لنصر الله وإيران.