لم أكن سعيدا بالقرار الذي اتخذته صحيفة "نهضة مصر" مع عدد من الصحف الغراء الأخري بالامتناع عن الصدور لمدة يوم واحد احتجاجا علي قانون منع الحبس في قضايا النشر الذي يبدو أنه قد أصبح قانون حبس الصحفيين في بعض قضايا النشر علي الأقل. فبشكل ما بدا لي هذا الإجراء نوعا من تسجيل الموقف أكثر منه خطوة نحو تحقيق أهداف الصحفيين خاصة أن باقي الصحف الأخري خاصة " القومية " منها ظلت علي ثباتها في الصدور. وبصراحة ومع الاحترام الكامل لكل الزملاء فقد بدا الإجراء لي كما لو كان إضرابا عن العمل لجماعة تقوم علي تنقية المياه احتجاجا علي انتشار العطش. وبدلا من أن تصدر الصحف أعدادا إضافية وملاحق لتنبيه الرأي العام بالكارثة القادمة مع قانون منع حبس الصحفيين في قضايا النشر فإنها قررت الانسحاب من الساحة والقيام بما تريده تماما جماعة المناهضين للإصلاح في البلاد والذين يرون أن كل إصلاح تم في السابق بما فيه حرية التعبير هو نوع من الغلطات التي آن أوان تصحيحها. وببساطة فإن قرار الاحتجاب عن الصدور كان من ناحية يخلص الصحفيين من أمضي أسلحتهم وهي الكتابة والنشر، ومن ناحية أخري يحقق أكثر الأحلام جنونا لطائفة إبقاء كل الأمور علي حالها. علي أي الأحوال فقد كان قرار الإضراب لمدة يوم واحد، ومن الممكن تعويضه بمزيد من النشر بأشكال شتي، ولكن الأهم من النشر هو الكيفية التي ينبغي بها التعامل مع الموضوع من الآن فصاعدا. فالصياغة الحكومية للموضوع لا تزال في صيغتها القاصرة التي طالما استخدمتها في كل مجالات الإصلاح الأخري، وهي الحديث عن خطوة أخري علي طريق زيادة حرية التعبير، كما كان قانون القضاء خطوة أخري علي طريق استقلال القضاء. هذه الصياغة هي ما ينبغي رفضه، لأن المطلوب هو حرية التعبير وليس خطوة في اتجاهها، والمطلوب هو استقلال القضاء وليس توجها نحوه، وفي العموم فإن المطلوب هو دولة ديمقراطية كاملة الأركان وليس دولة علي طريق الديمقراطية. ومنذ البداية فإنني من المؤيدين تماما لضرورة منع الحبس في قضايا النشر لأن ذلك ركن أساسي في ممارسة المهنة، فكما أن حصانة القاضي وعضو مجلس الشعب ضرورية لممارسة المهنة، فإن حبس الصحفي يجعله غير قادر علي ممارسة مهنته من الأصل وهي المهنة التي قرر المجتمع أنها واحدة من احتياجاته الأصيلة بل هي بالإدعاء السلطة الرابعة في الدستور. ولكن البداية لا ينبغي لها أن تجعلنا نغفل عن المصداقية التي يمكن أن تهتز ما لم يكن الصحفيون ممسكين بزمام الموضوع، فقول الحكومة بأن تجاوز الصحفي فيما يخص الذمة المالية للأشخاص فيه قدر غير قليل من الصحة وينبغي أخذه بالجدية اللازمة؛ وقلبه بالقول أن الحكومة تريد التغطية علي الفساد هو نوع من قلب الموضوع من نقاش موضوعي إلي حالة من الردح السياسي الذي لا يفيد الحكومة ولا يفيد الصحافة، وعندما لا تستفيد الحكومة ولا تستفيد الصحافة فإن المجتمع هو الضحية الأولي. والثابت أن هناك الكثير من القضايا المالية التي تناولتها الصحافة باعتبارها فسادا ثبت بعد ذلك في ساحة القضاء أنها ليست كذلك وجري فيها تشويه سمعة متهمين كانوا أبرياء؛ والثابت أن كثيرا من الصحفيين لا يتبعون سبلا مهنية راقية في التعامل مع حالات ملتبسة؛ بل ان الثابت أن مجرد وجود صورة لأي وثيقة فإنها تنشر علي أساس أنها الدليل الدامغ علي اتهام دون تحر أو استشارة لأصحاب الاختصاص في هذا الشأن. وليس معني ذلك أبدا موافقتي علي الحبس في قضايا الذمة المالية، وإنما دعوتي لعدم تجاهل الموضوع والبحث عن طرق للتعامل معه؛ فمن الجائز تماما تغليظ عقوبة الغرامة المالية في هذه الحالة. وإذا كان ذلك سوف يكون مكلفا فإن الحل ليس في تجاهل مسألة إمكانية إساءة الصحفي لمهنته وإنما في البحث عن طرق تساعد الصحفي علي دفع هذه الغرامة. وفي البلاد المتقدمة والديمقراطية فإنه يجري التأمين علي الصحفي إزاء مثل هذه القضايا بنفس الطريقة التي يتم فيها التأمين علي الطبيب في قضايا الخطأ غير العمدي، والتأمين علي المحامي ضد الإهمال أو الإخلال غير العمدي بمصالح موكله، وهكذا في كل المهن حيث يتم التأمين ضد أخطار المهنة بما فيها الإهمال غير المقصود. وفي البلاد المتقدمة أيضا، وفي المؤسسات الإعلامية العملاقة مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست وقنوات التليفزيون مثل السي. إن. إن فإنه توجد إدارة قانونية ومستشار قانوني تكون مهمتهم هي مراجعة موضوع الاتهام في الذمة المالية والتأكد من أنه يكتب بطريقة لا تتسم بالتشهير أو الابتزاز أو الإهانة حتي يتم صدور حكم قضائي، بل وحتي بعد صدور الحكم فإنه ينبغي الحفاظ علي الحقوق الأساسية للإنسان. مثل ذلك غير موجود في بلادنا، والإدارات القانونية الموجودة في الصحف هدفها هو الدفاع في القضايا المشهرة من الغير علي الصحيفة وليس حماية الصحفيين من أنفسهم، وحماية المجتمع منهم. ولو فكرنا بهذه الطريقة وبحثنا عن أفكار أخري لحماية حرية الصحفيين في التعامل مع قضايا الذمة المالية فربما نكون في هذه الساعة قد حققنا التوازن المطلوب، فلا توجد مصلحة للحكومة في صحافة مخصية غير قادرة علي ملاحقة الفساد، ولا توجد مصلحة للصحافة في الافتراء علي عباد الله !.