ضمن إعدادها لمسودة السياسات الجديدة الخاصة بمعاملة أسري الحرب, قررت البنتاجون حذف نص أساسي من نصوص معاهدة جنيف, يمنع صراحة الإتيان بأي سلوك أو معاملة مهينة أو تحط من قدر السجناء, علي حد إفادة مصادر عسكرية عليمة داخل الوزارة. وفيما لو حدث هذا, فإنه سيكون خطوة إضافية جديدة ودائمة علي طريق التنصل من تقيد أمريكا الصارم بالمعايير الدولية المرعية لاحترام حقوق الإنسان. وربما يستغرق النقاش حول هذه السياسات وقتاً طويلاً داخل الوزارة, ولن تتخذ المسودة المذكورة شكلها النهائي إلا بعد إعلان البنتاجون رسمياً عن التوجهات الجديدة. لكن علي أية حال, فإن وزارة الخارجية الأميريكية تبدي اعتراضاً شديداً عليها, واصفة إياها بأنها تنوي حذف الحماية القانونية اللازمة لحقوق الأسري والمعتقلين, المنصوص عليها في معاهدة جنيف. وتواصل الوزارة ضغطها علي كل من البنتاجون والبيت الأبيض, بهدف حملهما علي إعادة النظر فيها. والمعلوم أن وزارة الدفاع ظلت وعلي امتداد ما يزيد علي العام, تراجع سياساتها الخاصة بالحبس والاعتقال, وها هي تنوي حالياً إصدار "موجهات ميدانية حربية" جديدة فيما يتعلق بالتحقيق. وبجانب المرشد الحربي الموجود أصلاً, تشكل هذه الموجِّهات التابعة له, أساس التعليمات العسكرية التي ينصاع لها الجنود الأمريكيون المنتشرون علي نطاق العالم كله. والمشكلة أن هذه الخطوة الجديدة صادفت وقتاً تصاعدت فيه الانتقادات الدولية الموجهة لأمريكا فيما يتصل بمعاملتها للأسري والمعتقلين في سجونها المختلفة, بما فيها سلوك جنودها وفضائحهم التي صاحبت غزوها واحتلالها للعراق. وعلي حد تصريح أحد كبار مسئولي الوزارة, فقد أعيدت صياغة الموجهات الخاصة بالتحقيق مع المعتقلين, بحيث توضع الضمانات الكافية للمعاملة الإنسانية لجميع السجناء والأسري, دون أن يقلل ذلك من فاعلية وكفاءة التحقيق والحصول علي المعلومات المطلوبة منهم. وفي أثناء ذلك, تساءل منتقدو الرئيس بوش ومؤيدوه علي حد سواء, حول ما إذا كان ممكناً إيجاد أي صلة بين ما أعلنته الإدارة مراراً وتكراراً بعدم تقيدها بنصوص معاهدة جنيف, وبعض الممارسات الشائنة علي نحو ما حدث في سجن "أبوغريب", أو ما نسب مؤخراً لقوات "المارينز" من قتل للمدنيين في مدينة "حديثة". وعلي أية حال, وفيما لو حذفت الضمانات التي توفرها نصوص معاهدة جنيف في معاملة السجناء وأسري الحرب, فإنه سيصعب جداً علي الإدارة, وصف تلك الممارسات _أبوغريب وحديثة وغيرهما- بأنها مجرد انحرافات وأحداث استثنائية عارضة. وبالقدر ذاته فإن حذف النصوص والضمانات هذه, سيثير سحابة كبيرة من الشك, فيما يتعلق بمدي صرامة تقيد أمريكا بالمعايير والتقاليد الدولية المرعية في خوض الحروب ومعاملة الأسري. وتعليقاً علي ذلك قال "أونا إيه. هاثاواي", أستاذ وخبير القانون الدولي بكلية القانون بجامعة "يل": "إن العالم يدرك جيداً انشغالنا الآن بتعذيب السجناء وإساءة معاملتهم. وبرفضنا تضمين نصوص معاهدة جنيف والضمانات التي تضعها لحسن معاملة الأسري, إنما نؤكد تلك الشكوك, ونزيد نيران الانتقادات الموجهة إلينا اشتعالاً". وكان من المتوقع نشر توجيهات التحقيق الجديدة ومعها "الموجِّهات الميدانية الحربية" في وقت متأخر من شهر أبريل الماضي. غير أن نشرها تأخر نتيجة لاعتراضات عدد من أعضاء مجلس "الشيوخ" علي جملة من القضايا والجوانب التي شملتها "الموجهات". ومن بين ما اعترض عليه هؤلاء, نصها علي السماح بأساليب التحقيق المشدد والأكثر حزماً مع أولئك الذين يصنفون علي أنهم مقاتلون غير شرعيين. وتشمل قائمة هؤلاء المشتبه في كونهم إرهابيين,الأمر الذي يتنافي ومفهوم "أسري الحرب الدوليين" المتعارف عليه عالمياً. وجاء في تصريحات بعض المشرعين قولهم إن النص علي تباين وتضارب المعايير في معاملة الأسري _وهو ما تجيزه مسودة الموجهات الميدانية المقترحة- يعد انتهاكاً لتشريع قانوني ينهي عن ممارسة التعذيب, تقدم به السيناتور جون ماكين. والمعروف عن هذا الأخير أنه ضغط علي الكونجرس في العام الماضي, وحثه علي حظر أي شكل من أشكال التعذيب, وإصدار تشريع قانوني ب"موجهات العمل الميداني الحربي" كي يكون معياراً موحداً ومتفقاً عليه في معاملة جميع الأسري علي قدم المساواة. وقد تمت إجازة القانون وتحول إلي تشريع أمريكي بالفعل, علي رغم اعتراضات الإدارة والعراقيل التي وضعتها أمامه. وعلي نقيض هذا تماماً, فقد ظلت الولاياتالمتحدةالأمريكية علي التزامها الثابت عبر الحقب, بالحد الأدني من نصوص معاهدة جنيف طوال تعاملها مع سجناء وأسري الحرب. غير أن الذي حدث هو تعطيل الرئيس بوش التقيد ببعض نصوص تلك المعاهدة, واستثناء بعض أسري تنظيم "القاعدة" وحركة طالبان منها في عام 2002. وكان الغالب علي توجه بوش المذكور, تغليب الاعتبارات الميدانية الحربية علي شرعية القانون الدولي. وهو ما أثار كثيراً من الجدل داخل الولاياتالمتحدة وخارجها, فيما يتعلق بمدي التزام أمريكا بنصوص القانون الدولي في تعاملها مع أسري حربها المعلنة علي الإرهاب. وقد احتدم هذا النقاش علي نحو خاص, إثر الصور والتقارير الصحفية التي بثت عن ممارسات الجنود والمسئولين الأميريكيين في كل من سجني "أبوغريب" وخليج جوانتانامو الكوبي. هذا وتنصبُّ معظم الاعتراضات علي الموجهات الجديدة, علي حذفها للبند الثالث من معاهدة جنيف, علماً بأنه البند الذي يوفر الضمانات الكافية لحسن معاملة الأسري. فهل تستجيب "البنتاجون" لهذه الانتقادات؟