"خطة الانطواء" الإسرائيلية هي هدف سياسي وربما استراتيجي بعيد المدي للدولة العبرية، القصد منها محاولة وضع الحدود النهائية لهذه الدولة. ومؤخراً، وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، في حديث نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بأنها "الخطوة الأخيرة لسلسلة خطوات تاريخية دشنها ديفيد بن جوريون في عام 1948، ثم تبنتها بعده زعامات عسكرية وسياسية، كان آخرها الجنرال أرييل شارون الذي دشن المرحلة الأولي من سياسة الانطواء (أسموها في حينه بالانسحاب أحادي الجانب) من قطاع غزة". وفي هذا السياق، يطرح التساؤل التالي: ما الذي دفع القيادات الإسرائيلية المتشددة قومياً، وبعضها يعد الأكثر تعصباً وتطرفاً، إلي تبني هذه السياسة التي تتطلب الانسحاب من أراضٍ مأهولة "واسعة" من الضفة الغربية؟ هنا، نشير إلي أن الدراسات الديموجرافية التي قدمت نتائجها مراكز البحوث ورصد التوقعات المستقبلية إلي أولمرت، وإلي شارون من قبله، تؤكد ازدياداً مطرداً في عدد السكان الفلسطينيين، سواء في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة أو في العالم بشكل عام، وما قد يحدثه ذلك من آثار سلبية علي المشروع الصهيوني. ويكاد يجمع الخبراء من معدي تلك البحوث علي ضرورة رفع صيحات التحذير لأن وجه الشرق الأوسط سيتغير خلال العقود القادمة بشكل لم يدرْ في خلد العتاة من قادة المشروع الصهيوني. فعدد سكان العالم العربي قفز من 112 مليوناً في عام 1950 (أي بعد سنتين فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل) إلي أكثر من 300 مليون نسمة حالياً، وهذا العدد مرشح لأن يقفز إلي أكثر من 500 مليون نسمة خلال العقود القليلة القادمة. وإذا افترضنا جدلاً بأن جميع يهود العالم البالغ عددهم حوالي 13 مليون نسمة قد انتقلوا للعيش في فلسطين، وهو احتمال مستحيل، فإن نسبة عدد العرب إلي اليهود ستكون كاسحة. ومن المتوقع أن يصل عدد سكان الضفة والقطاع في عام 2050 إلي أكثر من ثمانية ملايين نسمة أي أكثر من سكان إسرائيل من اليهود، هذا دون احتساب عدد السكان الفلسطينيين داخل "الخط الأخضر" الذين كان عددهم مئة وخمسين ألفاً في عام 1948 وأصبحوا اليوم أكثر من مليون وربع المليون نسمة، وسيصبح عددهم مليونين ونصف بعد أربعة عقود. ومن هذا الرحم الديموجرافي ولدت فكرة بناء جدار الفصل "كخط نهائي لحدود إسرائيل الآمنة". وقد تعززت الفكرة (1) بعد انتشار الحركات الإسلامية الراديكالية في المنطقة، و(2) تزايد الخوف من اتساع حجم الفقر والبطالة، و(3) بسبب التغيير المتوقع لبعض أنظمة الحكم في العالم العربي. وفي هذا السياق، يقول شارون في تبريره لسياسة الانطواء: "يجب أن نواجه العاصفة السياسية والعقائدية التي تهب علي الشرق الأوسط، كما نواجه عواصف الطبيعة، أي بإغلاق الأبواب والنوافذ والانفصال نهائياً عن الفلسطينيين". إزاء هذه التوقعات وما تحمله من "مخاطر" جسيمة علي "أمن إسرائيل ووجودها"، سقط مشروع شمعون بيريز المراهن علي دمج الدولة اليهودية في المنطقة، كما سقط عدد من المشاريع الغربية التي مارست تنظيراً بدا في حينه مقنعا حول دمج إسرائيل في المنطقة اقتصادياً وسياسياً. ومضمون خطة الانطواء التي ينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت تنفيذها، هو التحدي الأساسي الماثل أمامه، مثلما أنه الاختبار المركزي لحكومته. وقد اختلف موقف المراقبين الأمريكيين والمتابعين عن كثب للتطورات علي الساحة الفلسطينية_ الإسرائيلية في تقييم التصريحات التي أدلي بها الرئيس الأمريكي جورج بوش بعد لقائه رئيس الحكومة الإسرائيلية أولمرت. ففي حين رأي فيها المبعوث السابق إلي الشرق الأوسط "دينس روس" اعترافاً أمريكياً واضحاً "بجدوي خطة الانطواء"، نوه المحللون بالمقابل باللغة المشروطة في تصريحات بوش، علاوة علي "إعادة الاعتبار" من قبل الطرفين لدور الرئيس محمود عباس. وقال روس في تعليقه علي الزيارة ونتائجها: إن "وصف بوش لخطة أولمرت بالشجاعة وتأكيده أنه لا يمكن الانتظار إلي ما لا نهاية، هو اعتراف ضمني أمريكي بجدوي الخطة واستعداد لتبنيها في حال فشل الخيار المتاح للتفاوض"، واعتبر "أن تصريحات الطرفين الأمريكي والإسرائيلي تنقل الكرة إلي الملعب الفلسطيني". وأضاف: "نضع المزيد من المسؤولية علي السلطة الفلسطينية لتقديم مبادرات فعلية في أية مفاوضات محتملة". وفي مقالة له بعنوان "تحالف الطواغيت"، يسجل الكاتب الإسرائيلي "جدعون ليفي" في صحيفة "هآرتس" العبرية جوهر "خطة الانطواء" وبعض أبرز نتائجها بقوله: "أولمرت تعهد بالبدء في خطة الانطواء بعد عامين. الآن أصبح يتحدث عن إخلاء ما لا يزيد عن 40 ألف مستوطن يهودي وتوطينهم من جديد في الكتل الاستيطانية. هذه ليست خطة سلام، وإنما خطة لتكريس الاحتلال بشكل ملائم أكثر لإسرائيل. وعدد المستوطنين في المناطق سيزيد علي ما هو عليه اليوم (في الكتل الاستيطانية) مع انتهاء خطة الانطواء. والكتل الاستيطانية تعتبر أكثر خطورة من المستوطنات القليلة التي سيجري إخلاؤها. حقيقة أن واشنطن ليست متحمسة للخطة حالياً، ليست مقلقة بالنسبة لأحد، ذلك لأنها ستؤيدها في نهاية المطاف، فالدولتان، كما نعلم، تشاطر كل منهما الأخري قيماً ومبادئ مشتركة!". كثيرون يرون أن مشروع الرئيس الأمريكي بوش القاضي بإقامة دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، يبقي هو الحل الأسلم لهذه المشكلة، لأن سياسة الانطواء والإغلاق تهدد بتدمير "المتغيرات الإيجابية" التي شهدها النظام الإقليمي منذ أن تبادلت "منظمة التحرير الفلسطينية" وإسرائيل الاعتراف، وعقدت الأخيرة مع مصر والأردن ومنظمة التحرير اتفاقيات للسلام. وتطبيق سياسة الانطواء بمعزل عن الفلسطينيين قد ينهي "مبادرة السلام العربية" التي سبق أن عرضتها المملكة العربية السعودية في قمة بيروت العربية، وقد يلغي خطوات الانفتاح علي الدولة الصهيونية من قبل بعض الدول العربية. ويبدو أن عدداً من المراقبين المتفائلين يعلق آمالاً علي الاجتماع المرتقب بين رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس "أبومازن" وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت مطلع يونيو حيث من المتوقع (حسب أكثر من تقرير) أن يعرض عباس علي الجانب الإسرائيلي خطة لاستئناف المفاوضات علي أسس ربما توافق عليها (أو علي الأقل لا تصطدم معها) حركة "حماس"، خصوصاً إذا قبلت الأخيرة في نهاية المطاف مبادرة قياديي الأسري الفلسطينيين الداعية إلي الاعتراف ضمناً بإسرائيل. إلا أن هذا الرهان مرشح للانفجار إذا ما فشل الحوار الفلسطيني، ناهيك عن كونه سيصطدم علي الأرجح بصخرة إصرار الجانب الإسرائيلي علي المضي في غيّه عبر تنفيذ خطة الانطواء في الضفة دون التشاور أو التنسيق مع القيادة الفلسطينية. إن خيبة الأمل تجاه عدم إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بالإضافة للضائقة الاقتصادية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، وخسارته لممتلكاته وأراضيه ومصادر رزقه، والطريق السياسي المسدود والمجبول أيضاً بإذلاله، سيقود حتماً لاندلاع "الانتفاضة الثالثة" التي تحدث عنها سياسيون وصحفيون إسرائيليون بارزون!