يعرف كثيرون فرانسيس فوكوياما، وهو أمريكي من أصول يابانية، علي أنه مؤلف الكتاب الشهير، "نهاية التاريخ"، الذي شكلت افتراضاته نظرية مثيرة للجدل علي غرار "صدام الحضارات" التي وضعها صمويل هنتنجتون. ويقرر فوكوياما في كتابه، مع كثير من التبسيط، أن نهاية الحرب الباردة لم تكن مجرد نهاية مرحلة ترتبط بالانتصار علي الشيوعية السوفيتية، وأن ماتشهده البشرية بعدها ليس مجرد "مرحلة أخري" انتقالية، وإنما هي نهاية التاريخ، أي نهاية التطور الإنساني بالوصول إلي حالة عامة من عولمة الديمقراطية اللبرالية الغربية، والتي تمثل ذروة عملية التطور السياسي، إذ أنها أفرزت وفق تصوراته أكثر الأنظمة التي عرفتها البشرية انسجاما مع الطبيعة الإنسانية، وبالتالي فإنها تعتبر الكلمة الأخيرة في حياة البشر. لكن كثيرين لايعرفون أن لديه كتابا آخر مساويا في الأهمية، إن لم يكن أهم، عنوانه المختصر هو "الثقة"، يقرر فيه شيئا يصعب تحديه بسهولة مثل نظرية "نهاية التاريخ"، وهو أن أحد الشروط الأساسية المتعلقة بتقدم الدول والمجتمعات هو الثقة بشكل عام، ويعرف تلك "الثقة" بأنها اقتناع سائد داخل جماعة بشرية تتسم بوجود سلوك مشرف منتظم متعاون يرتكز علي أسس أو قيم أو أعراف مشتركة تجمع أبناء الجماعة وتصنع تلاحمهم وتآزرهم. وينتقل مباشرة إلي التطبيقات العملية ليقرر بسهولة إن الثقة في مجالات الاقتصاد، وربما السياسة، أشبه بالثقة التي يمنحها الناس للطبيب حين يسلمونه أجسادهم دون ارتياب، وليس لديهم من ضامن سوي معرفتهم أنه أدي قسم أبقراط. وتتوغل النظرية في التطبيق علي الاقتصاد الذي هو محرك رئيسي لأمور كثيرة، فالاقتصاد الذي لا يقوم علي الثقة التلقائية وائتمان الآخر، سوف يكون اقتصادا بطيء النمو محدود التأثير، ولن يكون له مكان مرموق تحت شمس العالم الجديد. فالثقة بين المنتج والمستهلك وبين السوق والسلعة، هي العامل الوسيط في المعادلات التي تدفع في اتجاه التقدم، ومن لايملك الثقة أو يسئ توظيف مايملكه منها لصالح ولاءات (أو مصالح أو رغبات) أخري أدني مستوي، أو من يفتقر إليها تماماً، يجد نفسه متوجها بشكل سريع إلي منطقة ما "خارج التاريخ"، فالاندماج بين الأخلاق والسوق هو الذي يدفع في اتجاه التقدم، والاندماج بين الأخلاق والسياسة بعيدا عما يركز عليه فوكوياما هو الذي يصنع التطور، وبالتالي فإن فقدان الثقة يعني الاقتراب من سلة المهملات. لقد انتبه كثير من المحللين في تناوله لأحداث فرنسا الأخيرة إلي تلك النظرية، ففي البداية حدث تمرد سكان الضواحي، وكان عنيفا بدرجة لاتصدق، إذ بدا وكأنهم يحاولون "حرق الدولة"، ثم تلي ذلك تمرد الشباب علي قانون العمل المقترح الذي عبر عن نفسه في مظاهرات ضخمة، أوضحت أن قطاعا آخر يحتج علي مايدور. وفي الحالتين كان التفسير واحدا، رغم مايتسم به من طابع فلسفي نسبيا، وهو أن آلاف الفرنسيين الذين صوتوا في الانتخابات لتحالف الرئيس جاك شيراك، في ظل حالة من "الثقة" بأنه سيهتم بهم، قد بدأوا يتمردون علي ما اعتبروه إهمال الدولة لواجباتها تجاه أبسط حقوقهم، وأقدسها في نفس الوقت، وهو حق الحياة بشكل كريم، وحق العمل بشكل مطمئن، وبالتالي فإن كل الأفكار الخاصة بائتمان الآخر والتعاضد الإجتماعي وما أسماه فوكوياما "شبكات الولاء" قد أصيبت بضربة قاصمة، عندما تصورت الدولة نفسها أنها فوق كل حساب. الفكرة واضحة وحادة وقاسية للغاية، ومن الممكن تطبيقها علي كل الدول بنفس الدرجة من المصداقية، وهي أنه عندما يتم فقدان الثقة داخل دولة ما، فإنه غالبا لايوجد أمل في حدوث تقدم حقيقي علي المستويات الاقتصادية أو السياسية، فما يحدث في تلك الحالة هو مجرد حركة بالقصور الذاتي للتاريخ، وحد أدني لما يمكن تحقيقه في إطار "مايفلت" من المعوقات المتعمدة، أو نوع من التقدم الذي يحدث لأن هذه هي سنة الحياة فقط بعيدا عن كل الأفكار الخاصة بهندسة المجتمعات أو الدول، أو التفكير المسئول في أن هناك شعبا يستحق أن يعيش بصورة أفضل مما هو قائم، وأن الحكومات ليست وظيفتها أن تحكم، لكن أن تحدث فرقا في حياة الناس، وأن الجميع في خدمة المواطنين، وأن أية معادلة بخلاف ذلك لن تعمل طوال الوقت، وسوف تؤدي إلي حالة من التشوه أو بصورة أدق "عدم الثقة" في كل شئ. هنا لابد من الوصول إلي حالة مصر، وماتشهده في المرحلة الحالية، فمشكلتنا في مصر هي أن هناك أصلا حالة مزمنة من "عدم الثقة" استقرت تاريخيا في ثقافة الجميع، وأدت إلي إفراز أفكار مزرية، تتصل بعلاقة المواطن بالسلطة السياسية، وعلاقته أيضا بوسائل الإعلام، وتصوراته لرجال الأعمال، وضحت في الطريقة التي يتم النظر بها إلي مايسمي التصريحات الرسمية، أو "كلام الجرايد" أو لما يدور في عالم الأعمال. لكن المشكلة القديمة تحتمل قياسا علي الإشكاليات الجديدة التي بدأت تجتاح العلاقة بين المواطن والدولة بسبب وبغير سبب، والتي بدأت الموجة المرتبطة بها تتصاعد منذ منتصف عام 2005، علي الرغم من أن ماجري في ذلك الوقت اقتصاديا وسياسيا، كان من الممكن لو صدقت النوايا وانضبطت الإدارة أن يمثل " قفزة" في تاريخ مصر. علي أي حال، فإن المحصلة النهائية هي وجود حالة من فقدان الثقة في كثير من الأشياء، فلم يعد قطاع كبير من المواطنين يثق في شئ، وليست لديهم أصلا إجابات عن كثير من الأسئلة التي تخلق الثقة، وتدور معركة وهمية يتم المساس من خلالها بما بقي من الرموز، والتشكيك أحيانا حتي في أداء الحكومة من جانب أطراف شبه رسمية، يضاف لذلك تأثيرات الكوارث المتتالية والفضائح المالية، ويتصاعد أحيانا سؤال مقلق حول الطريقة التي تدار بها الأمور، وهنا لاتوجد إجابة واحدة، وحتي لو وجدت إجابة معقولة، فإن الصحف المستقلة الجديدة قد احترفت استخدام السياط التي تهبط بعنف علي عقول ونفسية مابقي من المواطنين، لتؤكد لهم بثقة يحسدون عليها، أن الدولة ذاتها تنهار. في هذا المناخ، فإنه علي ذمة فرانسيس فوكوياما، لن نتقدم حتي لو كنا مؤهلين لذلك، فعندما تنهار الثقة، ينهار المستقبل، أو يسير المستقبل وفقا لقواعد الحد الأدني الذي تتقدم الدول بمقتضاه استنادا علي مابقي من كل شئ، وليس بالارتكاز علي عمليات "هندسة الدول" التي نشهدها حاليا في حالات كثيرة، ليست بعيدة عنا في جنوب العالم، كالبرازيل والهند والمكسيك ودبي والأهم، جنوب إفريقيا، والمصيبة أننا مؤهلون بالفعل لأن نكون دولة متقدمة دون عناء كبير، فهل يمكننا بمنطق التفكير الإيجابي أن نستعيد الثقة المفقودة في مصر؟