يري الاسلام ان المجتمع المثالي هو الذي يقوم بناؤه علي عنصر الرحمة وان هذه الرحمة كما تكون بين الافراد بعضهم وبعض تكون ايضا بين الفرد ومجتمعه أي رحمة الفرد بأمته ودولته. والزكاة في الاسلام هي رمز تلك الرحمة، فإذا رجعنا الي المجتمع الجاهلي قبل الاسلام نجد الرحمة كانت منعدمة بين افراد ذلك المجتمع وبين الفرد ومجتمعه لأن الزكاة بينهم كانت معدومة ولم يكن للفقراء حق في مال الاغنياء، ولا للمجتمع حق في مال الفرد. وما اشتهر عنه من كرم فانما مرده الي الرياء والتباهي والفخر وطلب الرياسة والظهور في وسط القوم، كان الرجل منهم يذبح الناقة أو النياق ويتركها نهبا مشاعا وسط الفقراء، فمن استطاع الزحام في هذا الحشد المتراكم نال منه شيئا، ومن لم يستطع بات جائعا أو مات من الجوع وسيد القوم أو رئيس القبيلة يقف ينظر ليتشفي وليشبع غروره واستكباره او تقام الوليمة المشتهاة يدعي اليها الاغنياء ويطرد الفقراء، ولذلك جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد ذلك يقول" شر الوليمة ، الوليمة تدعي لها الاغنياء ويترك الفقراء "وحض علي ضرورة ايصال الصدقة لمستحقيها وبين ان هذا لا يتم الا اذا خرجت الصدقة بروح الايمان وجردت من مظاهر التعالي والرياء فمدح الذي يخفي صدقته بل الذي يبالغ في اخفائها حتي جعله من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله، لانه "تصدق فأخفي حتي لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وجعل الله سبحانه وتعالي الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، كما تفصله آيات سورة البقرة ثم تمضي السورة بعد ذلك علي مدي عشر آيات طوال فتحض علي التصدق وترغب فيه وتبين ان أفضله ما كان فيه الاخفاء فتقول احدي هذه الآيات: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي وان تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير". وقد فرض الله الزكاة علي الأغنياء كحق للفقراء وللدولة وفي مقابل ذلك فرض قطع يد السارق لأنه في هذه الحالة لم يعد له عذر للسرقة، فالناس بهذا صاروا إما غنيا غير محتاج واما فقير قد اخذ حقه من مال الغني فمن سرق بعد هذا فانما هو جشع غير قنوع ومن حقه علي الدولة في هذه الحالة ان يؤدب ولن يؤدب الا بقطع اليد التي مدها للاختلاس والافساد، وفي مقابل هذا ايضا أدي الاغنياء زكاة أموالهم عن اقتناع وايمان واحساس بأنهم يؤدون ضريبة الامن واستقرار الحياة ورأينا المجتمع الاسلامي يقف كالبنيان يشد بعضه بعضا وانعدم ما عرف في حياتهم بالغارات وصار الناس عباد الله اخوانا وتحقق فيهم ما بشرهم به الرسول صلي الله عليه وسلم في أول دعوته حين قال والله ليتمن هذا الامر حتي يسير الراكب من صنعاء الي حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب علي غنمه، وصارت الامة الاسلامية خير أمة اخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. ان الاسلام حين فرض الزكاة فانما نظر في فرضيتها الي ان الاصل ان المال ملك عام للدولة وللوطن الذي نشأ منه هذا المال وللمجتمع الذي نما فيه واستخرج من ارضه، فاصبح لهذا الوطن ولذلك المجتمع حق هو ذلك المال يصلح من شأنه كما ان الفرد المالك يستفيد بالمال في اصلاح شأنه الخاص فمثل الدولة في وجوه احتياجاتها المتعددة الي المال، مثل الفرد صاحب الملك الخاص فيما يقابله من وجوه الانفاق، فقد نظر الله سبحانه وتعالي في ذلك الي المجتمع علي انه كيان قائم متوحد وكل احتياج في جانب من جوانبه تسأل عنه بقية الجوانب الاخري وفي هذا يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الاعضاء بالسهر والحمي" ولذلك حصر القرآن الكريم جوانب الضعف او الاختيار في المجتمع وجمعها في آية واحدة وهي قوله تعالي "انما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" فطالب بذلك المسئولين واصحاب القدرة علي سد نواحي النقص هذه مهما تعددت هذه النواحي فانها مهما تتعدد فهي من المجتمع وفي المجتمع وواجب الدولة الساهرة علي مصالح رعاياها، ألا لا تترك اي خلل في المجتمع الا وتعمل علي اصلاحه من مثل القادرين حتي يقوم امره ولذلك جعلت هذه الاية الكريمة سد نواحي النقص أو جبر جوانب الضعف هذه "فريضة من الله" فضمن القرآن بذلك وحدة المجتمع ووحدة العناية بكل ناحية من نواحيه ، وبكل طائفة من طوائفه وتثري طائفة علي حساب الاخري ولا يعتني بطبقة وتهمل طبقة أو فئة وهذا هو معني الملكية العامة في الاسلام فالمال في واقعه في نظر الاسلام ملكية عامة للدولة ولو كان في حيازة فرد أو أفراد محدودين وليس لصاحب هذه الحيازة أو الملكية الخاصة الا ما تحتاجه حياته الضرورية في مستواه المعيشي الخاص دون اسراف او ترف وما بقي فيوجهه الي صلاح المجتمع وخيره كما قال تعالي: " وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا واحسن كما احسن الله اليك وقوله "وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" فعبارة مستخلفين فيه هذه الآية نص صريح علي هذه الملكية العامة للمال في نظر الاسلام فالمال مال المجتمع أو مال الله الذي وقف من خلفه موقف العائل كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك "الخلق عيال الله فأحب الخلق الي الله من احسن الي عياله" وكذلك جاءت الآية القرآنية تقول "وأتوهم من مال الله الذي أتاكم" وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم "ليس لك من مالك الا ما اكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت". فالواقع ان مشروعية الزكاة وان كانت من اجل مشاركة الفرد في حياة المجتمع الاقتصادية والانتاجية بقدر محدد الا ان النظرة في فرضها لا تقف عند هذا القدر وانما تتعدي ذلك الي تدريب الانسان علي هذه المشاركة دون التوقف عند حد معين ما دام في استطاعة الانسان البذل الي مدي أبعد وما دام المجتمع في حاجة الي هذا البذل لأن الامة لا تنهض الا بالمشاركة الخاصة والفعالة من جانب ابنائها ومن جانب جهودهم كأفراد الي جانب ما تقوم به من جهد علي المستوي الجماعي أو المستوي الحكومي، فالأمة الاسلامية في مبدأ امرها لم تنهض ذلك النهوض الذي بهر العالم ولا يزال يبهره الي اليوم الا بفضل فطنة ابنائها الأولين من الصحابة رضي الله عنهم الي هذا المبدأ وعدم وقوفهم عند حد اداء الزكاة المطلوبة وانما كانت الزكاة الي جانب كونها عملا تنظيميا لاستقامة العلاقة بين الفقراء وبين الاغنياء فانها كانت ايضا عملا تعليميا للانسان المؤمن علي البذل والتضحية في سبيل وطنه ومن اجل اقامة مجتمع قوي قادر، فانطلق المسلمون الاولون من مبدأ فرضية جزء محدد من المال، الي تقديم كل ما دعت اليه حاجة الامة، بكل ايمان وبكل رضي وفرح واستبشار، ولذلك علت امتهم وخفقت رايتهم بكل زهو وافتخار علي كل راية لم تعرف هذا المبدأ أو لم تؤمن به.