عندما كان الرئيس بيل كلينتون مرشحا لأول مرة للمنافسة علي منصب الرئيس في مواجهة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، اختار مدير الحملة الانتخابية لكلينتون التركيز علي القضايا الاقتصادية مستفيدا من الوضع الاقتصادي السييء الذي كانت الولاياتالمتحدة تمر به في تلك المرحلة وحتي لا يضيع الهدف عن أعين كلينتون المرشح قام مدير حملته بتعليق لافتة كبيرة في صدارة المكتب الرئيسي لمقر الحملة الانتخابية كتب عليها "إنه الاقتصاد يا غبي" حتي لا يغيب عن ذهن المرشح الرئاسي ولو لحظة جوهر الحملة التي يخوضها وأداته للفوز فيها. فاز كلينتون بفضل هذه الاستراتيجية الانتخابية وبفضل هذه اللافتة غير المهذبة التي رفعها له مدير حملته الانتخابية. وأظن أن بعضا من أولي الأمر لدينا في الحزب الوطني والحكومة بحاجة إلي من يذكرهم دائما بما هو جوهري في المشكلات التي يواجهونها، إنها السياسة يا أذكياء. فما من أزمة من تلك الأزمات التي تتعرض لها الحكومة أو أهل الحكم مؤخرا إلا وكان جوهرها سياسيا، فالسياسة هي جوهر الأزمة بين الحكومة ونواب الأغلبية من الحزب الوطني في مجلس الشعب، كما أنها في موقع القلب من أزمة بيع عمر أفندي وغرق العبارة وفرار مالكها للخارج، بل إن السياسة هي جوهر الأزمات التي تبدو نوعا من كوارث ونزلات القدر والطبيعة مثل أنفلونزا الدجاج وحمي المواشي القلاعية. فجوهر الأزمة بين الحكومة والمجلس هو أن مجلس الشعب الذي يتقاتل علي عضويته المرشحون، لا يلعب سوي دور محدود في صنع السياسات و التشريعات، فليس المطلوب من النائب المصري أن يحضر جلسات مجلس الشعب بانتظام و أن يقرأ ما يعرض عليه بدقة، فيوافق أو لا يوافق عليه، و إنما المطلوب منه أن يكون حاضرا وقت التصويت لكي يدلي بصوته مساندا للحكومة. و من الطبيعي في وضع كهذا أن يشعر النائب أن الحكومة مدينة له مقابل تأييده لها، و بالطبع فإنه لا يريد من الحكومة أن توفي بدينها إزاءه من خلال تعديل في السياسات أو التشريعات، و هو الشيء الوحيد الذي تمتلكه الحكومة من الناحيتين القانونية و الدستورية، و لكن المطلوب هو مكافأة النائب بأساليب هي في أسوأ الأحوال غير مشروعة، وفي أحسن الأحوال نوع من التجاوز المحدود للنظام من أجل تمكين النائب من تحسين موقفه بين ناخبيه، عبر توفير بعض الوظائف والخدمات خارج الخطط الموضوعة سلفا. مشكلة حكومة الدكتور نظيف هي أن محاولتها الحد من هذه المكافآت من أجل ضبط الأداء العام والحد من عوامل الفوضي المنتشرة فيه، تمثل خرقا لعقد اجتماعي وسياسي ظل ساريا بين الحكومة و النواب لفترة طويلة ترجع إلي ما يزيد علي الخمسين عاما، تم خلالها اختزال دور المجالس المنتخبة للتصديق علي سياسات الحكومة. وبغض النظر عمن هو المسئول عن هذا الوضع فإنه كان علي الحكومة وهي تحاول التملص من العقد القديم أن تتفاوض حول شروط عقد جديد، وهذه هي المهمة السياسية التي أخفقت فيها الحكومة. أما أزمات الدجاج والمواشي فهي في جوهرها أزمة ثقة، فالسنوات الطويلة من الإهمال والبيانات غير الصادقة والفساد وغياب الحكومة والحزب عن ساحة الفعل السياسي لم تسفر سوي عن أزمة ثقة عميقة بين المواطن والدولة، وبات رد الفعل الأول الذي يرد إلي ذهن المواطن عندما تصله أخبار جيدة مصدرها أجهزة الدولة هو عدم التصديق، وأن هذا مجرد كلام جرائد تريد به الحكومة "تسجيد الناس"، أما إذا كانت الأخبار سيئة أو يترتب عليها تحميل المواطنين تكلفة إضافية من أي نوع فإن رد الفعل الأول لدي المواطن هو اعتبار هذه الأخبار مجرد خدعة جديدة من الحكومة لاستنزاف أمواله، وأن هناك أحدا ما يقف وراء هذه السياسات الجديدة لتحقيق مكاسب غير مشروعة علي حساب المواطن البسيط، هكذا كان رد فعل المواطن عندما قررت الحكومة فرض استخدام حزام الأمان علي سائقي السيارات، وكذلك كان رد فعله لأنفلونزا الطيور، ففي الحالتين كان هناك من أصحاب المصالح من يقف وراء هذه الأخبار أو القرارات لتحقيق مكاسب إضافية غير مشروعة علي حساب البسطاء من الناس. ويرتفع مؤشر الاعتقاد بوجود مصالح خفية تقف وراء قرارات الحكومة عندما يكون الموضوع متعلقا ببيع ممتلكات عامة، سواء سمي هذا البيع خصخصة أو إدارة للأصول الحكومية. فالبيع باعتباره صفقة يثير في ذهن مواطن مشبع بكل الاتهامات والشكوك حول كل الصفقات، حتي أن الكلمة نفسها باتت سيئة السمعة في ثقافتنا السياسية، مع أن الحياة كلها بكل تفاصيلها هي عبارة عن مجموعة من الصفقات، أو لأن الصفقات هي من باب التجارة، وهي نشاط دنس يجب علي الحكومة أن تترفع عليه وتتجنبه وإلا اتهمت في شرفها وذمتها. ربما كانت المفارقة هي أن حكومة الدكتور نظيف التي تواجه كل هذه الأزمات هي -في رأيي وبالمقارنة مع الحكومات التي تولت شئون البلاد طوال العقد الأخير- الحكومة صاحبة البرنامج الأكثر وضوحا والذي تحكمه فلسفة واضحة، كما أنها الحكومة التي تتبني أكثر برامج الإصلاح الاقتصادي والإداري طموحا بالمقارنة مع سابقاتها، أما من حيث الكفاءة، فإن حكومة الدكتور نظيف تعد أكثر حكومات العقد الأخير كفاءة، حتي وإن لم ينطبق هذا بالضرورة علي أداء كل وزير فيها. مشكلة حكومة الدكتور نظيف هي أنها تريد تطبيق برنامج جريء للإصلاح بنفس الأساليب البيروقراطية القديمة، وهي الأساليب التي لم تكن أبدا صالحة، والتي تراكمت أسباب عدم صلاحيتها بعد حالة الحراك السياسي التي شهدها المجتمع المصري خلال العامين الأخيرين، وبعد التوسع الذي شهدته حريات التعبير والصحافة. فالحكومات المصرية المتعاقبة طوال أكثر من عقدين من الزمان اعتادت تنفيذ السياسات التي تراها دون أن تبذل جهدا لإقناع المواطنين بجدوي هذه السياسات اعتمادا علي الصيغة العتيقة التي حكمت العلاقة بين البيروقراطية المهيمنة والمواطن المستسلم. غير أن حالة الحراك السياسي الذي شهدته مصر مؤخرا قد سبب تآكلا في آليات وأدوات السيطرة البيروقراطية وشجع الفئات الاجتماعية وجماعات المصالح والقوي السياسية المختلفة علي رفع مستوي مطالبها وضغوطها، ووجد في الحريات الصحفية منفذا وقناة فعالة للإعلان عن مطالبه والضغط علي أولي الأمر. حدث كل هذا في الوقت الذي كانت فيه حكومة الدكتور نظيف تحاول تطبيق برنامجها الإصلاحي الطموح، والذي تضمن ضمن ما تضمن تسريع الأخذ باقتصاد السوق والانفتاح علي النظام الاقتصادي العالمي وإصلاح نظام الدعم السلعي. ما لم تدركه الحكومة أن هناك فئات اجتماعية مستفيدة من تلك الأوضاع التي تريد تغييرها، وأن تهديد مصالح هذه الفئات لابد له أن يحفز رغبتها في مقاومة باتت بعض أدواتها متوافرة، وأن فئات اجتماعية أخري حتي لو لم تكن مستفيدة بشكل حقيقي من هذه البرامج، فإن لديها شكوك مبررة في أن حالها سوف يكون أفضل بعد تطبيق برامج وسياسات بديلة، كما أن هناك ثقافة سياسية سائدة تسيطر عليها عوامل عدم الثقة في الحكومة وأغنياء القطاع الخاص الذين تتعاون الحكومة معهم عن قرب، والذين زاد تمثيلهم في الحكومة الراهنة بشكل ملحوظ دون حساب التكلفة السياسية لذلك بشكل دقيق.