"اللبنانيون لديهم قدرة علي جذب الانتباه .. إحرموهم من هذه الرغبة العارمة". تبدو هذه العبارة لأول وهلة، ومن خلال القراءة السطحية والمتعجلة والمتربصة، صادرة عن شخص يحب مشاكسة أشقائنا اللبنانيين. لكنها ليست كذلك علي الإطلاق، بل لعلها علي النقيض تماماً تأتي من باب عشق بلاد الأرز وسبر أغوار أهلها الذين هم أهله. فما بالك لو عرفت أن قائل هذه العبارة لبناني أصيل، هو المفكر الدكتور غسان سلامة، أحد أبرز الرموز الثقافية اللبنانية والعربية، وأحد أفضل العقول في عصرنا. ولكي لا تسئ فهم هذه العبارة الساخرة، يجدر توضيح السياق الذي قيلت فيه. قالها غسان سلامة أثناء حوار خصب أجراه مع كوكبة من أعضاء المجلس المصري للشئون الخارجية الذي يرأسه السفير عبدالرءوف الريدي، جري يوم السبت الماضي بالقاهرة، في معرض إجابته عن سؤال عن السياسة اللبنانية وتطوراتها الدراماتيكية الراهنة. أما شرحها فهو أن أرباب السياسة اللبنانيين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ونجحوا في جذب أنظار العالم كله إلي شئونهم التي راح ضحية لصراعاتها الداخلية وصراعاتهم مع سوريا بضعة عشرات من القتلي بينما مات في دارفور 300 ألف شخص قضوا نحبهم في ظل تجاهل عالمي! وعلي أي حال فان هذه كانت مجرد ملحوظة علي هامش تحليل عميق لحال عالمنا العربي قدمه غسان سلامة بأسلوب جذاب وبالغ الرشاقة. التحليل يبدأ برصد عناصر ثلاثة أساسية تتميز بها المنطقة العربية. العنصر الأول هو الموقع الجغرافي الذي يجعل من المنطقة العربية قلب عملية التواصل بين الشرق والغرب منذ التاريخ القديم حتي اليوم. ورغم تقدم تقنيات الاتصال فان هذا الموقع الجغرافي مازال يكتسب أهميته. العنصر الثاني هو المخزون الكبير من النفط والغاز الكائن في المنطقة. وبسبب تطورات كثيرة سياسية واقتصادية سيتحول النفط للمرة الأولي إلي "سلعة استراتيجية" من الطراز الأول، كما أن النفط يحول منطقتنا إلي سوق كبيرة تتجاوز إمكانياتها، ستستقبل مزيداً من الرساميل سواء من الفوائض الجديدة للبترودولارات (نتيجة للارتفاع المتصاعد لأسعار النفط) او العودة المرتقبة لرءوس الأموال العربية الموجودة في الخارج. العنصر الثالث المميز للمنطقة العربية هو إنتاجها التاريخي للأصول الرمزية، وبالذات للأديان السماوية. ورغم ان هذا الأمر لا يعالجه خبراء السياسة الدولية فإنه يفرض نفسه من حيث أن كون المنطقة مهد ديانات مهمة يجعلها موضع اهتمام مليارات من البشر في العالم بأسره وليس موضع اهتمام أهلها فقط. وعلي سبيل المثال فان مستقبل القدس لا يهم الفلسطينيين فقط بل يهم ملايين المسلمين والمسيحيين، فضلاً عن اليهود، في سائر أنحاء العالم. كذلك الحال في العراق، حيث العتبات المقدسة لا تهم شيعة العراق وحدهم بل كل الشيعة في العالم. ونفس الوضع ينطبق علي الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، اللذان هما قبلة المسلمين في قارات الدنيا كلها. هذه الشحنة الرمزية، إلي جانب مركزية الموقع، ومخزون النفط والغاز محرك الحضارة الانسانية، تؤدي إلي حقيقة مهمة جداً هي أن منطقتنا تعني للعالم أكثر بكثير مما يمكن أن نتحمله. لأن موقعنا إذا كان مهما وقدرتنا علي حماية هذا الموقع ضعيفة، فان ما هو إيجابي لا يصبح محايداً بل يتحول إلي عامل سلبي أو نقطة ضعف. وبعبارة أخري فان اختلال معادلة أهمية الموقع وضعف القدرة علي حمايته تجعلنا نتحمل وزر التدخلات الأجنبية المتلمظة للسيطرة علي الشحنات الرمزية المشار إليها آنفاً او النفط الذي تحدثنا عنه، لأن أصحاب الدار عاجزين عن حمايتها وغير قادرين عن حماية هذا الموقع. وانطلاقا من خصوصية المكان إذا أستعرنا عبارة أستاذنا جمال حمدان "عبقرية المكان" بتصرف يستنتج غسان سلامة أن ما يميز هذه اللحظة التاريخية هو هشاشة المنطقة أمام التدخلات الأجنبية. وفي هذه اللحظة التاريخية يظهر إصطفاف جديد للقوي قوي ساعية لتغيير الوضع القائم. وقوي تحاول الابقاء علي الأمر الواقع. وقوي "التغيير" تضم الولاياتالمتحدةوإيران. اما قوي "التثبيت" فتضم النظم العربية وتركيا وإسرائيل. وهذا الاصطفاف الجديد ينطوي علي مفارقات ملفتة للنظر. أولها أن الولايات ظلت زهاء ستين عاماً ضامنة للاستقرار والاستمرار في المنطقة . لكنها منذ 11 سبتمبر 2001 تحولت من ضامنة للاستقرار إلي الراغب في "التغيير" للمنطقة وخريطتها وتوازناتها، رغم أن مضمون هذا "التغيير" مازال محاطاً بالغموض والتناقضات والتأرجحات. ثانياً: أن انتقال أمريكا وإيران من موقع القوي الراعية لاستقرار المنطقة إلي موقع القوي الراغبة في "تغييرها" يضعنا أمام معضلتين: 1- هذا الاصطفاف الجديد يجعل قوي "التغيير" غير عربية، ويجعل قوي تثبيت الوضع القائم قوي عربية في الأساس، والأعجب أنه يجعل اسرائيل مع النظم العربية في نفس الكفة لأنه يبدو أن الوضع القائم في مصلحتها. 2- المعضلة الثانية هي أن أمريكا تريد التغيير في اتجاه، وإيران تريد التغيير في اتجاه معاكس. 3- وعلي أي حال .. فانه يمكن تلخيص الصراع الرئيسي في المنطقة بأنه صراع بين "التغيير" و"التثبيت"، ثم أن هناك صراعاً ثانياً داخل قوي التغيير يسير في اتجاهين متنافرين. وفي إطار الديناميات السياسية المتعددة الموجودة بالمنطقة تبقي الدينامية الأمريكيةالإيرانية أهمها وفقاً لهذه الرؤية الاستراتيجية. وهذه الدينامية الأخيرة لها عدة ساحات: 1- الساحة النووية: وإيران تسعي لامتلاك هذه القدرة النووية انطلاقاً من نظرتها لنفسها باعتبارها قوة آسيوية قبل أن تكون إسلامية. وهي تمضي في هذه الساحة بقوة لادراكها أنه من الصعب علي الغرب إجهاض مسعاها من الناحية العملية لأن معظم منشآتها تحت الأرض، وبعضها الآخر موجود في قلب مناطق مأهولة بالسكان، ومعظمها موزع علي مساحة شاسعة. ثم إن إيران علي عكس العراق لديها إمكانيات واسعة لرد الأذي في أكثر من موقع. 2- الساحة العراقية: فالتنافس في العراق علي أشده، لكن هناك من المؤشرات ما يؤكد أن إيران لها النفوذ الأكبر في مجالات كثيرة، بينما تمارس امريكا نفوذها علي الطبقة السياسية الجديدة ومن خلال وجود 140 ألف جندي يشكلون جيش الاحتلال، فضلاً عن نوع من التفهم الضمني لدورها في العراق حتي من بعض القوي التي كانت معارضة لغزوها للعراق (مثل ألمانيا). لكن إيران تتمتع بنفوذ سياسي رغم ذلك من خلال عناصر شيعية عراقية وثيقة الصلة بها نجحت في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وأيضاً من خلال المقاومة السنية المسلحة التي تزودها إيران بالمال والسلاح. 3- الساحة الفلسطينية: وقد سمع العالم تصريحات الرئيس الإيراني الجديد أحمدي نجاد حول مستقبل إسرائيل والتشكيك في الهولوكست. وقد استقبل الكثيرون هذه التصريحات بقدر من التندر. لكن بعد تسعة أشهر علي انتخابه يجب إعادة النظر في هذه التفسيرات السطحية. حيث تبدو هذه التصريحات جزءاً من استراتيجية مدروسة لرفع مستوي الاستفزاز. ويبدو أنه لا يجب رؤية نتيجة الانتخابات الفلسطينية الأخيرة بمعزل عن السلوك الأيراني. 4- الساحة السورية: حيث كان التحالف الإيراني _ السوري هو أقوي التحالفات. وقد أدي هذا التحالف إلي طرد الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان. وبدون هذا التحالف الإيراني السوري كان مستحيلاً أن يتحقق ذلك. وهذا التحالف مازال صلبا حتي هذه اللحظة، ولو ان طبيعته التي كانت تتسم بالندية في السابق أصبحت تميل لصالح إيران علي حساب سوريا بسبب التطورات السورية _ اللبنانية. وعبر هذه الساحات الأربع تجري المناوشات بين القوتين الأساسيتين الساعيتين ل "تغيير" المنطقة، أي بين أمريكا وإيران. وبطبيعة الحال فان لكل قوة منهما نقاط ضعف كثيرة، مثلما لها نقاط قوة. ونقاط القوة الأمريكية معروفة سياسياً وعسكرياً أما الورقة الأساسية في يد إيران في مواجهة الامبراطورية الأمريكية فهو تأفف معظم دول العالم من الجبروت الأمريكي. وهناك سيناريوهات متعددة لنتائج الصراع الاستراتيجي بينهما علي المنطقة. لكن السيناريو الأسوأ بالنسبة لنا هو "صفقة" بين واشنطن وطهران. هذه هي خلاصة الرؤية الاستراتيجية التي قدمها لنا الدكتور غسان سلامة، وهي رؤية ليست فوق مستوي الجدال بل إنها تغري بالأخذ والرد والنقاش المثمر. لكن لا أظن أن أحداً يختلف مع أحد أهم استنتاجاتها الرئيسية، ألا وهي أن مستقبل العرب غير مشرق علي الأطلاق طالما أنهم "متمسكين" بموقع "المفعول به".. المسلوب الإرادة السياسية.. الذي لا يطمح إلي الانتقال إلي موقع "الفاعل"، وإذا حاول أن يكون فاعلاً فان أقصي طموحه أن يلعب علي التناقض بين اللاعبين الأصليين. هكذا فعل عندما حاول الاستفادة من اللعب علي الحبال بين الروم والفرس، ثم بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وأخيراً.. وليس آخراً.. بين أمريكا وإيران. وياله له من مصير! [email protected]