كلما تابعت ما يحدث في هذا العالم ، أشعر بدوار شديد، ولقد أذهلتني أحداث متباينة، وامتلأت رأسي بأفكار متزاحمة وشعرت أنني أريد أن أفرغ طاقتي في الاعتراض أحيانا، والامتعاض أحيانا أخري، ثم التفكر ومحاولة استيعاب ما يحدث في أحيان ثالثة. ولدهشتي فلقد وجدت قاسما مشتركا بين كل ما يحدث، ولم أتبينه الا في تلك اللحظات التي جلست فيها حائرة ماذا أكتب في هذا الزخم. اكتشفت أن ديننا الحنيف الرائع الذي غير تاريخ شبه الجزيرة العربية أولا ثم العالم بعد ذلك. هذا الدين الذي امتلأ نورا وجمالا وسلاما، ونشر علي الأرض العدل والخير، اذا به ينتهك بأكثر من طريقة. لقد امتلأ العالم الاسلامي غضبا نتيجة لتلك الرسومات الساخرة من الرسول (صلي الله عليه وسلم)، ولكن لا يكفي هذا الغضب الصامت. كنت أتمني ان تخرج ايضا مظاهرات في كل أنحاء البلاد الاسلامية اعتراضا علي هذا الاستهتار بالمقدسات الدينية، وليدرك العالم أن هذه الشعوب لها وجودها، وأن تلك المنطقة التي تخطاها صحفي أقل ما يقال عنه أنه جاهل ومستهتر، لها حرمتها، وليتعلم العالم أن محبة الرسول "صلي الله عليه وسلم" هي أكبر من كل اختلاف بين رأي وآخر، وبين مذهب ومذهب، أو توجه وتوجه. لا يكفي أن نقاطع السلع الدنماركية، أو أن نعلن اعتراضنا، لا بد أن تتحرك الشعوب في غضبة تزلزل أركان من تسمح له نفسه أن يقترب من صورة نبينا (صلي الله عليه وسلم) بسوء. انني علي يقين أن المسلمين في كل انحاء العالم قد أصابهم هذا الأذي وشعروا بالغضب والغليان الداخلي. ولكم أتمني أن يتحول هذا الغضب الي رؤية الرسالة التي جاء بها هذا الرسول الكريم، واعادة قراءتها لنتبين فيها ومن خلالها كيف يمكننا اليوم أن نعيد بناء أنفسنا بتلك الروح السمحة، وبهذا الاتساع المتدفق بالمحبة للعالم أجمع، وليس بالصورة الكريهة التي تتمثل في ممارستنا الممتلئة بالظلم تحت شعارات دينية، وتمجد العنف وقتل الأبرياء. ان هؤلاء الذين يرفعون الحرب علي العالم أجمع باسم الاسلام، وهؤلاء الذين يقهرون الانسان باسم الشريعة يسيئون للاسلام بنفس القدر الذي اساء فيه الصحفي الدنماركي الجاهل للرسول الكريم صلوات الله عليه وسلامه. أقول قولي هذا وقد هزني أن طفلة بريئة لا ذنب لها، لا تجد أبا تتسمي باسمه، علي الرغم من أن هناك وسائل تثبت أو تنفي والدية هذا الشاب المستهتر. ان قضية هند الحناوي وأحمد الفيشاوي لم تعد قضية شخصية لأسرة، ولكنها قضية اجتماعية انسانية. وعندما يتخلي القضاء عن الضعفاء باسم الشريعة، فأين يكون العدل؟ واذا كان الفقهاء قديما قد أعطوا لأب الطفل الذي جاء عن طريق السفاح الحق في أن يرفض هذا النسب، فإن هناك منطقا وراء هذا التشريع يتناسب مع الظروف في ذلك الوقت، ألا وهو أن هذه السيدة التي زنت وفرطت في شرفها مع رجل، قد تفرط في هذا الشرف مع آخر، ولم يكن هناك ما يثبت انها لم تفعل، وان هذا الابن قد لا ينتسب الي من تدعي أنه أبوه. ولكن في ظل الظروف الراهنة فإن الاختبارات المعملية تثبت بطريق القطع عن البنوة أو عدمها، فلماذا تستجيب المحكمة لطلب شاب مستهتر بعدم اجراء اختبارات النسب المطلوبة، وتترك سيدة وطفلتها في بوتقة التيه والتخبط. واذا أضفنا الي ذلك أن هذه السيدة تؤكد أنها تزوجت هذا الشاب زواجا عرفيا "حتي مع الاعتراض علي هذا الانزلاق"، فلا بد أن تجد أذنا تسمعها وتفترض صدقها، خاصة وأنها سيدة من اسرة، يحمل افرادها مراكز اجتماعية مرموقة، وهي نفسها متعلمة، ولم تكن في حاجة الي الاحتيال علي انسان كي تورطه او تتزوجه. واذا كان هذا الشاب يعترف بأنه زنا مع هذه المرأة، فلماذا لا يقام عليه حد الزنا؟ أثارتني هذه القضية انسانيا ودينيا. أعتقد أن كثيرين مثلي تعاطفوا انسانيا مع الطفلة البريئة، وهي روح من خلق الله، علينا أن نرعاها، وتصورت موقفها عندما تكبر وتدرك ما يجري حولها. ولا شك أنني -واعتقد أن غيري يشاركونني - أن هناك لوما علي أم هذه الطفلة التي لم تدرك عواقب قرارها بأن تتزوج بهذه الطريقة التي تخلو من الاحترام، وتعرضها لهذه المهانة، ولكن هناك احتقارا شديدا لهذا الشاب الذي ينكر ابوته ولا يخجل من موقفه في المحاكم متسترا "بالشرع"، ومتنكرا لواجبه الانساني، في أن يمنح تلك الطفلة علي الأقل "اسمه"، وإن تخلي بعد ذلك عن مسئولياته. ألا يدرك أنه هو الأب الحقيقي لهذه الطفلة؟ ألا يدرك أن العدل الالهي لا يترك صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها؟ هل سيحميه حكم محكمة وقاض من غضب الله؟ هل الدين هو التخفي وراء أقوال قديمة لنظلم ونقهر ونتخلي عن مسئولياتنا؟ ألا نسيء للاسلام ولشريعته بهذه التطبيقات التي تتمسك بالحرفية الفقهية وتنسي جوهر الدين وهو اقامة العدل والاحسان؟ لقد جاء في حيثيات حكم المحكمة "إن الشريعة الإسلامية تقضي بعدم الاعتراف بالعلاقة غير الشرعية، والأبناء ثمرة تلك العلاقة". ويؤسفني ويحزنني أن المحكمة تتذرع بالشريعة، وهي كلمة نطلقها علي الفقه، وننسي ان الفقه هو اجتهاد انساني. لا يعني هذا أنني أظن أن الشريعة تعترف بالعلاقة غير الشرعية، ولكن الجزم المطلق بأن تلك العلاقة غير شرعية، لأنها غير موثقة أمر فيه نظر. ومن ناحية أخري فإنني لا أظن أن الاسلام بسماحته ورحمته يحاسب طفلا بجريرة والديه وقد قال تعالي في كتابه المنزل "لا تزر وازرة وزر اخري". ان هذه القضية تثير موضوعا أكبر كثيرا من كونها خاصة بحالة انسانية، انها تتعلق بكيف نتعامل مع الفقة، وحاجتنا الملحة لتطوير حقيقي في الفقة الاسلامي لاستنباط أحكام تتناسب مع عصرنا ومتغيراته. فما اسهل أن يطالب الكثيرون بترك الشريعة والتوجه الي القانون الوضعي، ولكن هل تتوقف شريعتنا السمحاء الجوادة عن عطائها لمجرد التمسك بأقول جوفاء، وتجاهل الواقع وما يحدث فيه. ألا من مجدد يرفع عن الشريعة هذا الظلم الذي ينسب اليها؟ هل سنظل اسري لابن تيمية وفكره الي أبد الآبدين؟ فنظل عبيدا للسلف والسلفية. ألم يحن الوقت بعد لعدم تقديس المدارس الفقهية والتحرر من أسرها؟ وقد أرادنا الله أحرارا، ولا نكون عبيدا الا له سبحانه، وهو الحق. هكذا أجد قلبي يبكي لأن ممارسات المسلمين تسيء الي الاسلام ورسوله. وما هذه القضية الا واحدة من كثير من الممارسات الأخري. واكتفي بذكر بعض هذه الممارسات، ومنها تشويه معني الجهاد بأفعال أقل ما يقال فيها أنها غير انسانية: اختطاف الألمان في العراق، وقتل السفير المصري، وأسري الديبلوماسيين السودانيين من قبل مصعب الزرقاوي وجماعته. الاصرار المستمر علي ان "الآخر" عدو يتربص بنا، علينا أن نقضي عليه قبل أن يقضي علينا. هل يعبر هذا عن فكر الاسلام ورحابته؟ ولكن .. علي الجانب الآخر، كان هناك بصيص من النور تراءي لي وأنا أري خالد مشعل زعيم حركة حماس يلقي بكلمته باقتدار يجمع فيها بين القوة والحكمة، فهو حريص علي لم شمل البيت الفلسطيني، ويطلب من المنتمين الي الحركة عدم المبالغة في اظهار فرحتهم بالانتصار في الانتخابات التشريعية، حفاظا علي مشاعر فتح، والفصائل الأخري. اتسمت كلمته بالثقة ووضوح الرؤية، والاستعداد للتفاهم وقبول اختلاف الرأي والرؤية. لقد افتقدنا أن تكون هناك قيادة تتحدث بهذا الحس الذي يمتليء شعورا بالكرامة والايمان. وأصبحت الشعوب العربية والاسلامية في حال من "الخوف" المستمر والشعور بالدونية أمام من هو أقوي عسكريا، وباتت اللعبة السياسية تتمحور حول عدم اغضاب السيد الأمريكي، ومحاولة ارضائه بشكل مهين لكرامة الشعوب. وهذا أمر غير مستغرب في ظل قوي سياسية تستعين بالقوي الخارجية كي تستمر في التواجد الحاكم، حيث أنها فاقدة للشرعية، ولكن ها هي الديقراطية تتمخض عن اختيار شعبي لحركة مقاومة تتخذ من الاسلام - كما تراه - مرجعية لها، فنري هذه الكرامة والاعتزاز والرغبة في اكتساب مزيد من الشعبية. وعلي الرغم من انني لا أتفق مع حماس علي رؤية "حل" المسألة الفلسطينية، خاصة فيما يتعلق بتصورها أن تحرير فلسطين يجب أن يكون كاملا، أي التخلص الكامل من دولة اسرائيل، كانت كلمات خالد مشعل وهو يشير الي أن حركته تتطلع الي السلام والتعامل مع المحيط العربي والدولي فيها وضوح للرؤية، لقد طالب العالم أن يحترم الارادة الفلسطينية واختياراتها واصرارها علي المقاومة. هذه الثقة التي ظهرت في حديثه كان مصدرها ايمان بالله، وايمان بأن مطالب الشعب الفلسطيني مطالب عادلة، فهو شعب يدافع عن حقه في الحياة. وتذكرت الاهانات التي تعرض لها ياسر عرفات، والمآزق التي يواجهها محمود عباس، والتلاعب في الالتزامات التي تجيده اسرائيل ببراعة، دون أن يكون هناك حسيب أو رقيب من المجتمع الدولي كي يردعها. ولعل هذا الوجه الشاب بهذه الثقة والايمان يحفظ لهذا الشعب جزءا من كرامته الانسانية، وقد يكون تلويحه باستمرار المقاومة ضرورة حتي تفيق اسرائيل من غيها. ما نحتاجه اليوم هو الايمان المبني علي المحبة للبشر أجمعين، وأن ندافع عن حقوق الآخر الانسانية بنفس القدر الذي ندافع بها عن حقوقنا. لا يخلق الاسلام اعداء، ولكنه يدفع دائما بالتي هي أحسن. انه رسالة السلام علي الأرض، وعلينا ان ننشر به السلام، وهذا هو جهاد المؤمنين.