أتساءل في بعض الأحيان أسئلة قد تبدو ساذجة، ولكنني علي ثقة أن الفطرة البسيطة تتعارف علي هذه الأسئلة وتفهمها، ذلك أن ضرورة الصراع والحرب والشقاق لا توجد في الفطرة النقية، ويبدو لها أنه من الطبيعي أن يعيش الناس في سلام ويتعاونوا من أجل البر والخير. وعلي الرغم من الخلفية الأكاديمية التي تثقلني بتراكمات التاريخ وتعقيدات الواقع، إلا أن تلك الأمنية البسيطة تداعب احلامي، وآمالي، وأتساءل لماذا يصر البعض علي الحروب، ولماذا يتصارعون لتقضي مجموعة علي أخري. لقد ألحت علي هذه الفكرة بقوة وأنا أراقب الانتخابات التشريعية الفلسطينية، وأقرأ التعليقات الأمريكية علي فوز حماس، ثم أنتقل الي تصريحات حماس ومنها الي التصريحات الاسرائيلية. السؤال الفطري البسيط يطرأ علي عقلي، هل من المستحيل أن تتواجد دولتان علي أرض الواقع، ينعم كل منهما بالسلام والتعايش السلمي. وتكون الاجابة المفعمة بالأمل ان هذا ممكن، ولكن الواقع يأخذنا الي الحقيقة المؤلمة وهي ان السلام بين الفلسطينيين والاسرائيليين يكاد يكون مستحيلا، ما لم يحدث تغير جذري في ايديولوجية كل منهما. من الصعب أن يطالب الشعب الفلسطيني بأن يضع السلاح، وأن يتجه الي الحوار والاتفاق مع عدو يري أنه يهدف الي تدميره والتخلص منه، ويدرك أيضا ان السلام في العرف الاسرائيلي هو هدنة استراتيجية لتجميل صورة اسرائيل من ناحية، ولالتقاط الأنفاس من ناحية أخري والتفكير في كيفية التوسع والاستيطان، وفرض واقع جديد. من السذاجة حقا أن نتجاهل الفكر الصهيوني الذي لا يضع حدودا للدولة الاسرائيلية، ولا يعتمد علي الواقع الجغرافي لدولة اسرائيل، ولكن يبني مستقبله انطلاقا من رؤية استيعابية ليهود العالم. وفرض الواقع هي السياسة التي انتهجهتها الصهيونية في وقت لم يكن هناك وعي بخطورة هجرة يهود أوروبا الي فلسطين التي بدأت بعد اعلان مؤتمر بازل 1897 وتضاعفت بعد المحرقة البشعة لليهود ابان الحرب العالمية الثانية. كان انشاء الجامعة العبرية البداية الحقيقية لقيام مجتمع اسرائيلي علي الأرض العربية. ولقد بدأت الفكرة في أواخر القرن التاسع عشر، ووجد الحلم طريقه الي الوجود عند وضع حجر الأساس في عام 1918، وتم افتتاح الجامعة عام 1925، واجتذبت الجامعة يهود العالم لكي يستعيدوا ثقافتهم التي هي اساس انشاء أي مجتمع. وفي الوقت الذي كانت الهجرات اليهودية تقدم الي الأراضي الفلسطينية حيث كانت فلسطين تحت الحماية الانجليزية، لم يكن هناك بد من أن يستقبل الفلسطينيون اليهود القادمون الي أن أصبح الوضع منذرا بالخطر، وبدأ الشقاق، وباقي القصة معروف، اذ أنه في يوم وليلة أصبح أهل البيت خارج بيتهم، واذا الفلسطينيون مشردون، لاجئون، مبعثرون في البلاد العربية. وها نحن نقترب من العقد السادس لانشاء دولة اسرائيل، حيث تواجدت اجيال متعاقبة لم تدر لها وطن الا في ذلك البلد، وحيث أمكن للمجتمع الاسرائيلي أن يتقدم ويتطور، وتصبح دولة اسرائيل في مصاف الدول المتقدمة، وسط زخم من العرب يملكون حضارات قديمة، وثروات هائلة، ولكنهم لم يمكنهم ان ينهضوا ببلادهم مثلما فعلت اسرائيل. لقد أصبح وجود اسرائيل حقيقة يستحيل انكارها، فكيف يمكن التعامل معها. هل سنستمر في الضعف الي أن تحقق اسرائيل أحلامها التي تخطط لها وراء الكواليس (من الفرات الي النيل) أم أننا سنكون قادرين علي التواجد كأمة قوية يصعب اختراقها. ولكن قبل أن نفكر علي مستوي الأمة العربية أو حتي دول الجوار، علينا أن نراقب ما يحدث علي أرض فلسطين ودولة اسرائيل. ان الفلسطينيين يرون أن هذه الأرض هي ارضهم الأصلية، وأن تلك الدولة دولة دخيلة، لن تبقي في هذا المحيط الذي يختلف عنها ثقافياً لفترة طويلة، ولذا فإن الفلسطينيين _ حتي المعتدلون منهم _ يتعاملون مع "الممكن" ، والممكن اليوم هو أن يقيموا هدنة تحت شعار السلام، حتي يمكن أن يؤسسوا مجتمعا فلسطينيا، تمهيدا لانشاء دولة، ثم التخطيط لامكانية التوسع في استرداد الأرض المفقودة. وأما الفلسطينيون _ الأكثر تشددا _ لا يخفون هذه النية المبيتة، ويعلنون أن هناك اغتصابا للأرض، ولايمكن أن يضيع الحق بمرور الزمن، ويعلنون عزمهم علي الرجوع الي الوطن المسلوب، مهما مر الوقت، ويرفعون شعار الجهاد، الذي يلهب حماس الشباب، فيتوجهون الي الأعمال الانتحارية، استشهادا. واذا كان هؤلاء المتشددون قد قاطعوا انتخابات 1996، وهي أول انتخابات تشريعية بعد معاهدة أوسلو، الا أنهم اليوم دخلوا هذه الانتخابات، آملين بالطبع أن ينالوا أكبر مقاعد في المجلس التشريعي. ولا يكون من المعقول أن يجلس ساسة اسرائيل في انتظار انهيار دولتهم، فهم يشهدون آثار جريمتهم في وجود هذا الشعب واستمرار وجوده، ولذا فلقد كانت جولدا مائير أكثر صراحة، عندما أعلنت أنه لا يوجد شعب اسمه شعب فلسطين، وأنها لم تسمع عن هذه الأسطورة، وكانت تعني بالطبع في ذلك الوقت أنه ليس هناك حقوق لهذا الشعب في فلسطين أو "اسرائيل"، وان البلاد العربية عليها أن تستوعب هذا الشعب وتترك اسرائيل في سلام. ولكن لم يحدث هذا الحلم الصيهوني المائيري، فالانتفاضة قد جعلت اسرائيل تفيق الي أن الشبح الذي عزمت علي التخلص منه، يقض مضجعها، وينزل بها خسائر بشرية واقتصادية جسيمة، فكانت معاهدة أوسلو التي ظن كل من الفلسطينيين والاسرائيليين أنها مكسب ولم يحتسبوا المخاطر المحيطة بها. ظن الفلسطينيون أنه يمكن أن يتواجد تفاوض علي "جزء" من الأرض الفلسطينية، ليعيش عليها هذا الشعب، حافظا لنفسه كرامته، وسيادته. وظنت اسرائيل أنها ستحتوي هذا التمرد، حيث يصبح الفلسطينيون تحت قبضتها، يمكنها أن تتخلص منهم تدريجيا. بمنطق الكوجيتو، يمكن أن يعيش الفلسطينيون بدون هوية اسرائيلية، وبالتالي بدون حقوق مدنية في أراض محدودة، وهي كفيلة بعد ذلك بخلق المشاكل الحياتية التي ستجعل من حياة هؤلاء جحيماً، وتستفزهم، حتي يمكن أن تكون ضرباتها وتصفيتها الجسدية لهذا الشعب تحت اطار الدفاع عن "الأمن" الاسرائيلي. لقد قرأ نعوم تشومسكي العالم اليهودي الأمريكي الذي دافع عن القضية الفلسطينية، وتفهم أبعادها، هذا المستقبل المظلم، والنفق الذي لا نهاية له منذ الثمانينيات، وحذر العالم كله مما يمكن ان يوصلنا اليه هذا الصراع في تلك المنطقة الي اشتبكات علي نطاق أوسع، بل وقد يقود الي حرب عالمية. وهاجم ادوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأمريكي معاهدة أوسلو، مدركا أنها احتواء للفلسطينيين تحت القبضة الاسرائيلية، وليس خطوة من أجل تحقيق الدولة الحلم. خلاصة القول هو أن كلا من الفريقين متربص بالآخر، يريد أن يقضي عليه، والفرق بين المعتدلين والمتشددين في الجهتين هو أن المعتدلين يتخذون من السلام هدنة لالتقاط الأنفاس، وتزيين الوجه أمام الرأي العام العالمي، بينما المتشددون يعلنون صراحة أهدافهم. وان كانت حماس تعلن هذه الأهداف بقوة وبصراحة أكثر من الاسرائيليين، الذين يتحلون بالدهاء لتجميل الوجه القبيح، وبالتالي فإن حماس تخدم الأهداف الاسرائيلية عن جدارة. وموقف أمريكا من حماس لا يثير أي دهشة أو تناقض كما يظهر في وسائل الاعلام العربية. لأنه ليس من المتوقع أو المقبول أن تساند الولاياتالمتحدة قوة سياسية فلسطينية تعلن جهارا نهارا أنها ستدمر اسرائيل تماما. وأما "الشارونيون" فإنهم لا يعلنون نيتهم المبيتة علي التصفية الجسدية للشعب الفلسطيني، بل يسعدون بهذه التصريحات "الحماسية" ويكتفون باعلان عزمهم علي التخلص من "حماس"، وفي صميم ضمائرهم يعلمون أن حماس هي التي تعطيهم المبرر الدائم لهدم المنازل وتجريف الأراضي، وبناء الجدار العازل، وتحطيم البنية التحتية، ومنع المياه، وجعل حياة الفلسطينيين جحيما، حيث ستقضي عليهم الأمراض ونقص الغذاء، واليأس. ان السؤال البسيط الذي يشترك معي فيه ملايين من البشر علي سطح الأرض، هؤلاء الناس الذين يعيشون حياتهم، تداعبهم الأحلام الانسانية المشروعة لا يتصورن أن هناك مشكلة في أن يعيش شعبان في سلام دون حرب. هل يمكن أن يكون هذا الحلم البسيط متاحا حتي يفيق الفريقان الي أنه في ظل التربص، سيتحطم العالم كله في شعبين يرفضان أن يقبل أحدهما الآخر. و لابد أن يكون للحديث بقية.