في يونيو من عام ،2004 أدلي نائب الرئيس السابق آل جور بحديث مفعم بالعاطفية وبعد النظر عن ممارسة الجنود الأمريكيين وغيرهم من عملاء الوكالات السرية للتعذيب. وكان حظ ذلك الحديث في الصحافة والرأي العام الأمريكي، النسيان والتجاهل التام. وفيه استخدم آل جور مفردات ولغة لا محل لها في لغة الخطاب الأمريكي السائد اليوم. فقد جاء علي لسانه قوله "إن من أوضح مؤشرات عجز الإنسان عن التصالح مع نفسه وروحه، عجزه عن الاعتراف بوجود أرواح أولئك الذين يمارس عليهم سلطته وقوته". ومضي للقول أيضاً "إن في الحط من كرامة السجناء من قبل الجنود الأمريكيين، قدراً كبيراً من الانحطاط بالأمة الأمريكية نفسها". وكانت قوة تلك المقولة مشفوعة بصدق المتحدث وصراحته المذهلة في استخدام لغة الأخلاق والعبارات ذات المدلول الديني، أمراً غير مألوف ليس في قاموس الإعلام ولا في أذن القطاع الأوسع من النخب العلمانية، علاوة علي ما حظيت به من استغراب واستهجان من قبل دوائر "المحافظين الجدد" المناصرة لإدارة الرئيس بوش، التي جعلت من ممارسة التعذيب سياسة رسمية للحكومة الأمريكية. وها هو آل جور وقد كرر حديثه ثانية، بما يعيد للآذان والذاكرة أصداء ما قاله في يونيو عام 2004. يجدر بالذكر أن آل جور قد أدلي بحديثه الأخير أمام جمهور غفير احتشد داخل قاعة "كونستيتيوشن" بمدينة واشنطن. أما المناسبة التي قيل فيها، فهي الذكري السنوية لقائد الحقوق المدنية مارتن لوثر كنج. والموضوع الذي تطرق إليه آل جور هو وضع دستور الولاياتالمتحدةالأمريكية في ظل إدارة بوش الحالية. أو لنكن أكثر حرصاً وتحرياً للدقة، ونقول إن الموضوع تطرق إلي ما تمثله هذه الإدارة من خطر علي الدستور الأمريكي، بسبب المزاعم التي تدعيها بتقديمها للسلطات الرئاسية علي صلاحيات وسلطات الكونجرس، علماً بأن في هذا الادعاء ما يهدد بنسف مبدأ حكم القانون نفسه! وقد هاجم المتحدث فرضية بوش القائلة إن له لحظة شن الحرب علي الإرهاب سلطة ضمنية غير معترف بها، تخوله حبس واعتقال كل فرد أمريكي، يري فيه خطراً علي الأمن القومي. وبصرف النظر عن الجنسية الأمريكية لذلك الشخص المعتقل، فإنه محروم من حق الاستشارة القانونية، بل وحتي من حق اتخاذ أي وسيلة كانت لإثبات وقوع خطأ في التعرف علي هويته، أو أنه وقع ضحية لاعتقال خاطئ! وعلي حد قوله "فقد زعم الرئيس بوش لنفسه حقاً مطلقاً في اعتقال المواطنين الأمريكيين إلي أجل غير مسمي ربما يمتد إلي بقية حياتهم كلها دون صدور أمر اعتقال من جهة، ودون مواجهتهم بالاتهامات المثارة ضدهم، بل وحتي دون إخطار أسرهم بأنهم رهن الاعتقال". وبذلك والاستطراد في الحديث لا يزال للمتحدث آل جور إنما تدعي إدارة بوش لنفسها سلطة مسبقة غير معترف بها في إساءة معاملة سجنائها بطريقة ليست أقل من التعذيب بأي حال من الأحوال، علي نحو ما جري توثيقه وتدوينه في العديد من المنشآت العقابية الواقعة تحت إدارة الجنود الأمريكيين في أنحاء مختلفة من العالم. وقد ترددت الأنباء عن موت ما يزيد علي 100 من هؤلاء السجناء والمعتقلين تحت التعذيب والتحقيقات التي يجريها "الفرع التنفيذي"، بينما لحقت الإهانة والإذلال والتحطيم النفسي بأعداد تفوق ذلك الرقم بكثير. كما هاجم آل جور في معرض حديثه كذلك، رئاسة بوش في ادعائها ضمناً لحيازتها سلطات تخولها التنصت والتجسس علي الاتصالات والمكالمات الداخلية، وهي الممارسة التي رفض الكونجرس التصديق عليها بشدة. والمقصود هنا علي وجه التحديد "وكالة الأمن القومي" التي اعترف الادعاء العام نفسه بأنه طلب من الكونجرس تخويل الإدارة بالصلاحيات والسلطات التي تمكنها من التنصت علي المكالمات الهاتفية الداخلية للمواطنين، غير أن الكونجرس رفض ذلك ولم ينصع للطلب. لكن وعلي رغم الرفض الصريح الذي أبداه الكونجرس، فقد مضت الإدارة إلي ما تريد دون أن تأبه لسلطة أو قانون، تأسيساً علي ادعاء آخر هو أنه يحق للرئيس بوش بصفته قائداً أعلي للجيش، أن يمارس السلطات التي يعطيها إياه هذا المنصب! وكان طبيعياً أن يتساءل آل جور عما إذا كان الدستور الأمريكي يمنح الرئيس كل هذه السلطات التي يدعيها أم لا؟ وفيما لو كانت الإجابة بالإيجاب علي هذا السؤال، فهل ثمة أفعال أخري تحجب عن سلطات الرئيس، في ظل النظرية التي تمارس تحت عباءتها كل تلك الممارسات التي تعد خرقاً وانتهاكاً صريحاً للقانون؟ إن المرء ليذكر هنا قولة شهيرة لعميد كلية الحقوق بجامعة ييل: "إن الذي يستتبع ادعاء الرئيس وزعمه لهذه "السلطات الحربية" المطلقة، هو أنه يحق له أن يرتكب جرائم الإبادة الجماعية، وأن يمارس استرقاق البشر، وأن يدعو لسياسات التمييز والفصل العنصري، وأن يأمر بالقتل الجزافي الكيفي للأفراد". ثم يخلص آل جور إلي أن كل هذه الادعاءات والمزاعم، إنما تمثل خطراً كبيراً علي الدستور الأمريكي ومبدأ حكم القانون الذي يقوم عليه، مما يعني أنها تهدد بإحداث تحول جوهري في نمط الحكم الديمقراطي الأمريكي نفسه. وعلي الرغم من أن آل جور لم يقل ما سأقوله صراحة في حديثه، فإنه توصل ضمناً إلي حقيقة أن الرئيس بوش ومستشاريه وطاقم معاونيه، إنما يعملون علي إرساء مبدأ أمريكي جديد، يقوم علي أساس "الديكتاتورية الرئاسية"! وتستند دعائم هذه الديكتاتورية علي فرضية قائلة بأن حرب الرئيس وما خولته من صلاحيات وسياسات خارجية، لا تخضع جميعها لأي من صلاحيات الكونجرس، علاوة علي كونها فوق أي مراجعة قضائية! وبالمقارنة مع الماضي ونحن نعود هنا مرة أخري للمتحدث آل جور فإن كونجرس اليوم لم يعد معترفاً به. والسبب أن قيادته الحالية حولته إلي مطية طيعة بيد السلطة التنفيذية، مما يعني انتفاء دوره وهيبته. بل يتهم آل جور الكونجرس بما يصل إلي حد التقصير المتعمد في أداء الواجب، وهو ما عدّه سابقة تاريخية خطيرة، ستكون لها عواقبها وتبعاتها الوخيمة علي نظام الحكم الأمريكي.