قبل ساعات قليلة من نهاية عام 2005، جاء حديث عبد الحليم خدام نائب رئيس جمهورية سوريا الأسبق لقناة العربية، حول أوضاع سوريا ولبنان وحقيقة مصرع رفيق الحريري، كطلقة مدفع معلنة عن نهاية عام مشحون بالأحداث والتحولات وبداية عام جديد قادم. كان دوي شهادة المسئول السوري الكبير قويا ومؤثرا داخل سوريا ولبنان وعلي مستوي العالم العربي والخارجي، لكن حديثه في الحقيقة، وبرغم كل الإثارة التي أحاطت به، لم ينشئ أوضاعا جوهرية جديدة. كل ما هنالك أنه أضاف مزيدا من اليقين علي صحة الشكوك الموجودة من قبل والتي طفحت بعفوية منذ لحظة اغتيال الحريري في اتجاه اتهام أجهزة الأمن السورية واللبنانية بالتخطيط والتنفيذ للجريمة النكراء. لم يجزم خدام في شهادته بشكل واضح وصريح، وبناء علي معلومات محددة، بأن أجهزة الأمن السورية هي التي كانت وراء الجريمة، لكنه بحكم منصبه وتاريخه الطويل داخل النظام السوري قدم وصفا لطبيعة السلطة السورية ودور أجهزتها الأمنية، وعلاقة هذه الأجهزة بلبنان، بطريقة دعمت رواية ميليس والتقارير المقدمة منه إلي مجلس الأمن، والتي كانت محل نقد ورفض من الحكومة السورية، ومن قطاعات مهمة في العالم العربي مازالت تري في سوريا ضحية لمؤامرة أمريكية وإسرائيلية تبغي حصارها واغتيال سيادتها. أهمية شهادة خدام ترجع إلي موقع صاحبها وأهمية منصبه وتاريخه السابق لا إلي محتواها المباشر فيما يتصل بقضية اغتيال الحريري. كان خدام أحد مهندسي اتفاقية الطائف، وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، والعلاقة الخاصة بين سوريا ولبنان والتي تحولت مع الوقت إلي علاقة غاشمة لا تختلف كثيرا عن احتلال دولة لدولة أخري. وبانشقاق خدام، وخروجه علي النظام السوري، بعد أن كان أحد أعمدته الرئيسية، يضع الرجل نفسه عند نقطة التقاء قد تقود من ناحية إلي كشف أسرار جريمة اغتيال الحريري والجرائم الأخري التي تلتها، وتؤدي في نفس الوقت وبطريقة غير مباشرة إلي الكشف عن حقيقة نظام الحكم داخل سوريا، كنموذج نمطي منتشر في العالم العربي، والبحث في مدي أهلية هذه النظم في التعامل مع التطورات الإقليمية والعالمية المتغيرة. فيما يتصل بقضية الحريري والكشف عن تفاصيلها واستكمال التحقيقات فيها، يدخل خدام بظهوره المفاجئ في نطاق التنافس الجاري بين لجنة التحقيق الدولية والحكومة السورية من أجل العثور علي "شاهد عيان" يمكن من خلاله كل طرف أن يدعم نظريته بالنسبة للحادث. وحتي الآن سجل كل طرف بعض النقاط تحقق بعضها من خلال الشاهد هسام هسام الذي نجح في اللعب علي الطرفين. حتي بعد ظهور خدام علي مسرح الأحداث مازالت هناك أشياء غامضة وتحتاج إلي تفكير عميق في محاولة تفسيرها. من غير المفهوم مثلا سماح الحكومة السورية في هذا الوقت الحرج بخروج خدام إلي باريس وهي تعرف جيدا خلافه معها منذ استبعاده من مؤتمر حزب البعث الماضي، ومن غير المعلوم أيضا حقيقة ما يتردد عن استجواب ميليس لخدام بدون أن يذكر ذلك في تقريره الأخير ربما انتظارا لما سوف تسفر عنه التحقيقات علي الجبهات الأخري. وكان لافتا للنظر أيضا ميل خدام إلي أن وزير الداخلية السوري غازي كنعان قد مات منتحرا وليس مقتولا. لقد صرح خدام بأنه ليس "مُبتعدا" ولا "مُستبعدا"، ووصف علاقته بالرئيس بشار بأنها طيبة، لكنه ركز نقده وبشدة علي رستم غزالي رئيس مكتب المخابرات العسكرية السابق في لبنان ووصفه بالفساد والإجرام، لكنه في نفس الوقت لم يعف الرئيس بشار من مسئولية اتباع سياسة خاطئة مع لبنان ومع زعمائه، ولم ينس الإشارة إلي تهاونه في محاسبة الأجهزة الأمنية السورية علي ما قامت به من تجاوزات هناك. ويبدو خدام من خلال تصريحاته في وضع من يلقي للرئيس بشار الأسد طوق النجاة، من خلال تحريضه علي الخلاص من رستم غزالي والتضحية به، وكان بشار قد قال من قبل أنه لو ثبت قيام سوري بهذا العمل فسيتم محاسبته بوصفه خائنًا وسوف يسمح بمحاكمته في سوريا أو خارجها. الملاحظ أيضا أن رستم غزالي كان علي وشك الرد علي خدام في قناة العربية إلا أنه مُنع من ذلك وقيل أنه أجل ذلك لمدة ثلاثة أيام. كل ذلك يبين أن خدام لم يقل شيئا حاسما فيما يخص التحقيق، لكنه بظهوره علي شاشة الأحداث حرك الداخل السوري إما في اتجاه مزيد من الانقسام والهرب والاعتراف بحقائق ما حدث، وإما في اتجاه تركيز الاتهام علي أشخاص بعينها _ كما حدث في حالة لوكيربي الليبية _ إنقاذا للكبار والنظام وكفي المؤمنين بعد ذلك شر القتال. علي المستوي الآخر، وبعيدا عن جريمة اغتيال الحريري والتحقيقات التي تجري حولها، يكشف تمرد عبد الحليم خدام وانشقاقه علي النظام السوري أزمة الحكم في العالم العربي وليس في سورية وحدها. ويتداعي إلي الذهن وبنفس الأسلوب تقريبا، هرب زوجي بنات صدام حسين من العراق إلي الأردن بصحبة زوجاتهما، وما قاما بكشفه من أسرار للمخابرات الغربية التي سعت إليهما في عمان لمعرفة ما يخبئه النظام في بغداد من أسلحة دمار شامل. ونعرف جميعا نهاية هذه القصة المأساوية وما رفعته وقتها من غطاء كان يخفي بشاعة النظام العراقي حتي مع الأقارب المقربين وتكالبه علي السلطة وعدم أهليته في حماية الشعب والوطن بعكس ما يدعي طول الوقت. وما يثير الدهشة الآن حديث البعض عن المؤامرة الخارجية، والاستهداف الغربي للبلاد العربية والإسلامية، متجاهلين أن المؤامرة الحقيقية كامنة في الداخل وليس في الخارج. وفي هذه النقطة كانت شهادة خدام كاشفة تماما لواقع الحال في سوريا، لكنها للأسف كانت شهادة مجروحة، لأن خدام نفسه لا يختلف كثيرا عن زوج ابنة صدام في نظرته إلي طريقة الحكم، فهو يتشدق الآن بالديموقراطية والإصلاح ولو كان الأمر في يده لما اختلفت تصرفاته عما يفعله نظام الحكم الحالي في دمشق. بمجرد أن تكلم خدام منتقدا النظام السوري، انفتح الباب أمام السوريين للرد عليه ووصمه بالفساد والمحسوبية وتضليل العدالة، لكنهم وفي نفس الوقت وبدون أن يذكروا ذلك صراحة يستغلون الفرصة لسحب هذه الصفات علي الآخرين الموجودين في السلطة. الآن يردد النواب في مجلس الشعب السوري أن خدام يمتلك مليارات الدولارات التي سرقها من ثروة البلد، وسمعنا اتهامات له ولأسرته عن أنشطة إخفاء نفايات نووية في سوريا في مقابل الحصول علي ملايين الدولارات. تحمل شهادة خدام إذن معاني أخري مهمة أبعد من قضية الحريري تتصل بحتمية الإصلاح السياسي والاقتصادي وضرورة الديموقراطية وتمكين رقابة الشعب في العالم العربي. إن المشكلة بالتأكيد ليست في أطماع الخارج، وليست في مؤامرات أمريكا وإسرائيل، ولكن المشكلة في غيبة سيادة القانون، وشرعية الحكم، وافتقاد القدرة علي إدارة علاقات الدولة الداخلية والخارجية بحكمة ورشادة.