منذ ربع قرن أو يزيد قليلاً كان كل شيء في الساحة السياسية واضحاً حين كانت المصطلحات السياسية محددة ودلالتها غير ملتبسة أو غامضة علي العكس مما يحدث اليوم من خلط في الاوراق ناتج عن غموض او التباس المصطلحات السياسية مثل اليمين واليسار والموالاة والمعارضة وغيرها من التعبيرات التي كانت تقال حينها فيجري فهمها بالتحديد ودون ادني شك فيما يقصد قائلها فحين كنت تصف احداً بانه يساري مثلاً كنا نفهم انه شيوعي أو ماركسي أو حتي راديكالي أو قومي وحين كنت تصف شخصا بأنه رجعي مثلاً فانك كنت تقصد انه سلفي أو محافظ ولايميل الي التغيير أو التجديد فهو اذن من دعاة الجمود أو المحافظة علي وصلت اليه الاحوال والظروف بدعوي الاستقرار وعدم المخاطرة أما اليوم فقد تغيرت المفاهيم واختلفت الاوراق واصبح لكل مصطلح من تلك المصطلحات مفهوم يختلف عما كان له في الماضي فاليمين في أوروبا مثلا هم دعاة التمسك بالدين والدعوة الي العنصرية القومية والتعصب ضد الجماعات المخالفة للمسيحية أو القومية الاوروبية علي عكس القوميين عندنا الذين يدعون الي الوحدة العربية بصرف النظر عن الدين فالقومية العربية تجمع المسلم والمسيحي وحتي اليهودي العربي دون تمييز.. واذا كان اليمين في الماضي يدعو الي الليبرالية وحرية الفكر والعقيدة وحرية الصحافة وتكوين الاحزاب فإن اليمين بمفهومه العصري اصبح يضم من كان في الماضي يساريا أو قوميا أو سلفيا حين اصبح جميع المنتمين لتلك التيارات يتبنون الدعوة لهذه الشعارات التي كانت في الماضي تميز انصار الاتجاهات اليمينية دون غيرهم خذ عندك الناصريين مثلاً الذين كانوا في الماضي يرفضون الاحزاب ويعتبرون الاتحاد الاشتراكي هو البوتقة التي يتم صهر جميع التيارات داخلها اصبحوا الآن من انصار التعددية الحزبية والدعوة الي حرية الصحافة بعد ان كانوا لا يعترفون الا بما يسمونه الصحافة القومية التي تخضع لسيطرة الدولة. واذا نظرنا الي اصحاب الاتجاهات الدينية فسوف نجدهم مختلفين عما كانوا عليه في السابق حين كانوا ينظرون الي الديمقراطية علي انها فكرة غربية تهدف الي تفريق المجتمع والخروج علي الجماعة والحيلولة دون اجماع الامة اصبحوا اليوم من اشد الغلاة في المطالبة بحرية تكوين الاحزاب والمشاركة في الانتخابات البرلمانية.. وهكذا هو حال اليسار الذي خرج من عباءة الحزب الطليعي الذي يقود المجتمع الي حكم الطبقة العاملة متحولاً إلي حزب نخبوي يؤمن بالتحالف مع تيارات سياسية اخري تهدف الي التغيير عن طريق صناديق الاقتراع. هكذا لم يعد اليمين يمينا كما كان ولا اليسار يساراً كما عهدناه فقد تحولت كل تلك التيارات السياسية الي تيارات رجعية في الواقع ترفع شعار الرجوع الي (مرجعية). ايديولوجية تحكم حركتها نحو المستقبل فالتيار اليساري يدعو الي الرجوع الي مايسمونه بالماركسية الجديدة التي تشيع الان في معظم دول امريكا اللاتينية والتي تقوم علي تحالف قوي الشعب العامل من اصحاب المصلحة في التغيير وليس علي طبقة العمال وحدها كما كانت تؤمن في السابق. أما انصار التيارات الدينية فهي تدعو الي الرجوع الي القرآن والسنة والتمسك بالشريعة الاسلامية كما وضعها الائمة من السلف الصالح كذلك يدعو الناصريون الي الرجوع الي التجربة الناصرية واستخلاص ما يناسب الواقع فيها من اجراءات ومواقف. انظر إلي أي من تلك التيارات السياسية وما تدعو اليه من افكار لتغيير الواقع نحو مستقبل افضل فلن تجد فيها غير الرجعية اي الرجوع والاحتكام الي افكار ومواقف سابقة مضت عليها الحقب والسنوات الطوال مع اجراء بعض التعديلات أو المراجعات التي لا تخل بأصولها أو مبادئها العامة فهي دعوة للمراجعة وليست للتراجع وان كانت في جوهرها دعوة للرجوع والرجعية.