علي مدي عدة دورات برلمانية متتالية، احتلت المعارضة بمختلف أجنحتها الكراسي النيابية في الدوائر الانتخابية الملهلبة بالصعيد والطرية بحري البلد والانتخابات الماضية أقرب الأمثلة، فقد قفلت المعارضة بعض دوائرها لحسابها، فلم يحصل فيها حزب الحكومة علي رجل كرسي أو حتي علي رجل دكة، ومع أن حرب الحكومة خسر مقاعد تلك لدوائر إلا أن تلك الخسارة أفرزت مكسباً حكومياً هائلاً، فقد اثبتت بطريقة واقعية ملموسة نزاهة الانتخابات وشفافيتها، ولكن الأمر أثار دهشة المراقبين وحيرة المحللين، ثم تحول مع الوقت إلي لغز محير وسر كبير مثل سر التحنيط عند الفراعنة وكأسرار ومعجزة العبور لشرق القناة بحرب 73 المجيد، فحزب الحكومة بكل حيل حكومته خسر عدة دوائر فازت فيها معارضة نائمة علي صرصور أذنها، ولكنه تم مؤخراً فك اللغز المحير، فالمعارضة الفالتة لصقت ببراعة صفة عميلة بالحكومة، كبراعة التليفون الحسري في خلط قرع الثقافة المصري بماء البرك العصري، ولكن لصق صفة سيئة كهذه بالحكومة لم يسبب فقط فقدان حزبها لعشرات المقاعد النيابية وإنما أيضاً شوّه شكل المعارضة والأغلبية معاً، بالإضافة إلي أنها تصنع أقصي الحواجز بين الواصفين والموصوفين بها، وبالذات إذا كانت الصفة مضروبة بخلاط براني. وصفة عميلة السيئة لم تكتشفها الأحزاب المعارضة كمستفيدة ومتضررة منها ولا الحكومة كمتضررة فقط بها، وإنما اكتشفتها الشركات التجارية أولاً، ثم لهفتها المعارضة بعد ذلك لتستعملها بكثافة ضد الحكومة فأثناء إجراء دراسة جادة لمعرفة أسباب تدهور أرقام مبيعات شركة تجارية، اكتشفت أن السبب كلمة عميل في الشعار التجاري المشهور: العميل دائماً علي حق، لسوء دلالتها بجميع الأذهان، ففي الصعيد الملهلب مثلاً يعاقد الصعيد بحصار اجتماعي مشدد عند لجوئه كعميل لأحد الأغراب طالباً مساعدته لأخذ ثأر من قتل أبيه، وذلك تطبيقاً للمادة تسعة وتسعين مكرر من قانون العقوبات الصعيد المحترم. فلما غيرت الشركات كلمات عميل إلي زبون ارتفعت أرقام مبيعاتها بشكل ملحوظ فكان اكتشافاً مذهلاً كاكتشاف مدام كوري لليورانيوم المشع، لكن أحزاب المعارضة استغلت الاكتشاف المدهش بطريقة مختلفة، فكثفت هجومها علي الحكومة كمركز للجميع فوصفها بهذه الصفة يطعن في وطنية الجميع، لكن لا تنكر فائدتها للمعارضة، كسبب لتدهور شعبية من يوصف بها، مثلما تدهورت أرقام مبيعات الشركات التجارية، والسوء في هذه الصفة منفردة أكبر وأخطر من كل الصفات السيئة الأخري مجتمعة، فمثلاً إذا وضعنا العمالة كصفة في كفة، وفي الثانية جميع الأعمال السيئة المعروفة، كالتزوير والهبر والأونطة التليفزيونية، مع قرع الثقافة والنطح بالروسية والرفس بالشلاليت لرجحت كفة العمالة. كل ذلك لأننا سمعنا مؤخراً أن أحزاب المعارضة غيرت مواقعها، فبدلاً من تباهيها السابق بوطنيتها واستقلالها، ومعايرة الحكومة بتبعيتها وعمالتها، لجأت للاستقواء بأجانب ليحكموا العملية الانتخابية، فظنناها في البداية أكذوبة، فلما اتضحت كحقيقة، اعتقدنا أن المستقوين بالخارج ينتمون كمواطنين للبلاد التي يستقوون بها، فالمستقوون بأمريكا مثلاً ناس أمريكان يخوضون انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي لا انتخابات مجلس نيابي مصري، وكذلك الأمر بالنسبة لإخوانهم المستقوين ببريطانيا لأنهم من الانجليز المرشحين لعضوية مجلس العموم أو مجلس اللوردات البريطانيين والاستقواء بفرنسا كمرشحين لعضوية الجمعية الوطنية، أما اللجوء للاستقواء ببلده الأصلي، لا كعميل له وإنما كمرشح لعضوية مجالسه النيابية، ولكن لم يعرف بعد كم عدد اللاجئين للاستقواء بإسرائيل كمرحشين للكنيست. ولجوء المرشحين للاستقواء بوطنهم الخارجي الأصلي للفوز بمقعد نيابية هنا كوطن انتقالي يعيشون فيه مؤقتاً، يدل علي التطور المذهل للوطنية المعاصرة، فالمستقوي ببلده الأصلي الخارجي، يعيش هنا بعيداً عن مسقط رأسه، لكنه لم يفقد الانتماء لوطنه الأم الخارجي فلجأ له ليفوز بالمقعد النيابي المحبوب، كنوع جديد من الوطنية المطورة كعربات سكك حديد مصر، ولكن المستقويين بأوطانهم الخارجية الأصلية أضاعوا كارت شحن جماهيري حصدوا به سابقاً عشرات المقاعد النيابية، فه تكفي الوطنية المتطورة للمعارضة لحصولها هذه المرة علي نصف كوتة؟!