تمتلىء شاشات الفضائيات مساء كل يوم بمحللين ومنظرين وفلاسفة يؤكدون لنا أن الضربة الوشيكة التى ستقوم بها الولاياتالمتحدة لسوريا ، ستكون بمثابة "بروفة" لضربة أكبر وأشد وطأة لمصر ! ويجتهد آخرون من الإعلاميين فيقدمون خرائط لسوريا بعد تقسيمها مدللين بذلك على ما سيحدث فى مصر ..لكننى لأسباب سأشرحها لاحقاً أرى أن وجود الإخوان فى مصر وسوريا ، لا يعنى بالضرورة أن تكون المؤامرة التى تتعرض لها البلدان واحدة .. وإذا كان الإخوان قد شاركوا فى أحداث يناير 2011 وفجروا ما اسموه الربيع العربى فى سوريا ضد نظام حكم بشار الأسد فى نفس التوقيت ، فإن هذا لا يعنى تطابقاً أو تماثلاً بين النظامين .. فالسبب الجوهرى للاختلاف أن كلا منهما له جيش مختلف فى التدريب والعقيدة والتسليح والتنوع ، والأهم الحكمة فيمن يقوده ويوجهه .. الكثيرون يقولون اليوم أن المؤامرة التى بدأت عام 2000 برعاية كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية ومستشارة الأمن القومى للرئيس جورج بوش الأبن ، استهدفت بناء شرق أوسط جديد ، واستلزمت فى الوقت ذاته تدمير أقوى ثلاثة قوات مسلحة عربية و التى يمكن أن تمثل تهديداُ لإسرائيل وهى جيوش مصر وسوريا والعراق .. ورأيي أن هذا الطرح غير سليم فالجيش العراقى السابق كان له ظروفه حيث انهكته حرب صدام الطويلة مع إيران ثم حله الأمريكان بعد الغزو .. أما الجيش السورى فكانت آخر معاركه ضد إسرائيل عام 1973 ، ومن وقتها لم يطلق رصاصة واحدة على الدولة العبرية ، بل تفرغ لقمع لبنان المجاور تحت دعاوى عديدة واحتل مساحات كبيرة منه عام 1976 بدعوى حماية بيروت من الحرب الأهلية ، فتسبب فى زيادتها ، بل إنه امتنع عن التصدى للهجمات والغزوات الإسرائيلية المتعاقبة على لبنان .. ودخل هذا الجيش فى تحالف مريب مع حزب الله الشيعى والذى تسبب بأفعاله فى جلاء القوات السورية عن لبنان وإقامة شريط حدودى بطول 30 كيلومتراً بين جنوب لبنان وإسرائيل تتمركز فيه قوات الأممالمتحدة لحفظ السلام "اليو نيفيل" .. وبالتالى فإن هذا الجيش السورى الذى يبالغ الناصريون والقوميون فى تقدير قوته ، قد نال هزائم متعددة معنوية وعسكرية خلال تواجده فى لبنان، بل أن تل أبيب عندما قامت بضرب موقع "دير الزور" السورى والذى زعمت أن به مصنعاً كيماوياً ، لم نسمع عن أى رد فعل من دمشق إزاء هذا الانتهاك الفظيع لأراضيها وسيادتها ..القوة المصريةإذن إسرائيل تعرف جيداً القدرات التسليحية واللوجيستيه المتواضعه للسوريين ، وكل ما يهمها هو تجريدها من السلاح الكيماوى وهو ما تريده أمريكا أيضاً كى لا يصبح لدى دمشق أى أسلحة ردع ضد إسرائيل لو فكرت فى ذلك ..أما الجيش المصرى فهو ليس كالجيش السورى والعراقى اللذين استخدمهما حافظ الأسد وصدام حسين على التوالى ضد الشعب وإبادته .. أولاً: الجيش المصرى جيش وطنى لا يرفع سلاحاً فى وجه مواطنين حتى لو تجاسروا وتجرأوا عليه .. ثانياً: القوات المسلحة المصرية ليست جيشاً طائفياً يتنازع الجميع الولاء فيه.. الولاء للطائفة قبل الوطن .. وللقائد قبل الشعب كما فى سوريا .. جيشنا على قلب رجل واحد ، ولاؤه للشعب وعقيدته القتالية الوطن أولاً ، ولا يعرف تقسيمات مذهبية أو تحالفات اقليمية. ثالثاً : الجيش المصرى لا يعرف ميليشيات أو مرتزقة (كحماس وحزب الله بالنسبة لسوريا) وبالتالى لم يتورط فى أعمال إرهابية أو ضد إسرائيل ، وأرغمها على الإعتذار مرتين عندما قتلت جنوداً مصريين على خط الحدود. رابعاً : جيشنا لم يدخل مغامرات ضد دول مجاورة ، ولم تتورط مصر فى استضافةإرهابيين أو مطلوبين للعدالة مثلما كان الحال فى سوريا عندما استضافت عبدالله أوجلان زعيم الأكراد المطلوب فى تركيا لإرتكابه جرائم قتل مدنيين وتفجير منشآت وتحريض ابناء قومه على الثورة ضد تركيا .. وكادت أنقرة تغزو سوريا بدعم حلف من الأطلنطى عام 1998 ، لولا تدخل الرئيس الأسبق مبارك ومنعه الضربة فى آخر لحظة ..من ثم فإن الجيش المصرى استطاع أن يطور بناء منظومته الدفاعية والهجومية بشكل متميز ، وهو أيضاً يمتلك أسلحة ردع قوية ,ولا تخرج عن قواعد القانون الدولى ، كما أن اتفاقية السلام التى وقعها مع إسرائيل جعلته محصناً ضد استفزازات الدولة العبرية وغضب أمريكا والإتحاد الأوروبى .. غير أن التحركات الأخيرة للشعب فى 30 يونيو ومساندة الجيش له فيما عرف بالانقلاب العسكرى على الشرعية فى الصحافة العالمية لا تتيح الفرصة للتدخل الأجنبى ، مثلما تتيحها عمليات الإبادة ضد الجنس البشرى ، واستخدام أسلحة محرمة دولياً ، كما حدث فى جمهورية الصرب ، وما كاد يحدث من محاكمة لعمر البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية ، لولا أن سارع بالموافقة على تقسيم السودان .. الفارق الجوهرى إن خطأ بشار الأسد ومن قبله والده حافظ الأسد أنهما لم يدركا مغبة إرسال قوات سورية إلى بلد عربى هو لبنان ، ولم يتعلما من التجربة الناصرية الفاشلة عندما أرسلت القاهرة قوات إلى اليمن لمساعدته فى ثورته ، وما لبثت أن تحولت صنعاء إلى ساحة صراع بين دولتين هما السعودية ومصر.. وكان من نتيجة ذلك هزيمة 1967 .. تعلمت مصر الدرس عربياً ولم ترسل قوات خارج أراضيها إلا فى حالات متفق عليها عربياً وربما عالمياً (تحرير الكويت مثلاً) وبخلاف هذا يكون الموضوع عبثياً .. وبناء على ما تقدم فإن الحكمة والتروى والعلاقات المتوازنة لمصر تختلف إلى حد بعيد عن الطريقة التى يدير بها بشار بلاده ..لقد وقع بشار فى نفس خطأ الإخوان بمصر عندما اعتمد حلولاً أمنية قمعية لمشكلة سياسية فى الأساس وهو ما أدى إلى ما تواجهه سوريا الآن وما واجهه الإخوان فى مصر وأدى إلى زوال حكمهم .. النظام فى سوريا – فى تصورى – كانت لديه فرصة حقيقية للتعامل بشكل سياسى ومرن وفعال مع المطالب الشعبية الخاصة خاصة وإنها لم تتضمن فى البداية رحيل رئيس الدولة .. وهو بالمناسبة نفس خطأ الإخوان عندما لم يوافقوا على تعديل الدستور وتغيير الحكومة وتغيير النائب العام واحترام أحكام القضاء .. تشابه إن الحراك الشعبى عندما بدأ ضد الإخوان فى مصر لم يكن هناك جهاديون يقتلون جنود الجيش والشرطة فى سيناء فى رمضان أو طوال العام الماضى .. لم تكن هناك أعلام للقاعدة ، ولم يتم تقسيم سيناء إلى إمارات إسلامية .. وبمجرد أن بدأت جبهة الإنقاذ المصرية تنتقد المواقف الإخوانية ، ظهر القتل والذبح والخطف والتفجير والإغتيال .. كانت معارضة سلمية مصرية قابلها الإخوان بدموية وعنف .. وهو نفس ما حدث مع بشار عندما قابل المطالب الشعبية باستقدام "جهاديين" و "إيرانيين" ومقاتلى حزب الله ليقطعوا الرؤوس ويأكلوا الأكباد ..كان أمام بشار أيضاً فرصة مماثلة للخروج من الأزمة الحالية ، لكنه عاند وتكبر وتجبر وطغى ، فكان ما كان .. الفارق الآخر الهام هو أن مصر بعد ثورة يونيو 2013 أصبحت لا تعرف مبدأ الأقلية والأغلبية الدينية وهو ماكان سائداً فيها منذ دخول الإسلام ، إلى أن أطلت برأسها البغيض مع بدايات حكم أنور السادات وصدامه الشهير مع البابا شنودة وعزله .. مصر الآن – فى دستورها – تصحح الطائفية التى غرسها الإخوان فى الدستور القديم وبالتالى سيكون الحكم مدنياً قائماً على المواطنة واحترام حقوق الأقباط ، وليس دولة طائفية تفرق بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية .. وهذا ما لم تتنبه له سوريا .. فالذين يقولون أن الحكم البعثى قائم على العلمانية وبالتالى هو أفضل شىء للأقليات ، فهذا قول مغلوط لأن البعث بطبيعته فى سوريا والعراق عنصرى تماماً ليس فقط ضد كل ما هو غير عربى ، بل حتى مع من لا يرى الأمور كما يراها هو .. وهو لا يسمح بالاختلاف ودرجة ممارساته للقمع هى الأعلى فى التاريخ الحديث ..وهو فى هذا يتشابه أيضاً مع الإخوان .. استنتاجات ويبقى الأهم .. 1- حجج التدخل العسكرى الغربى تنضح بالازدواجية وعدم الاتساق فالولاياتالمتحدة لم تنتفض فجأة لحقوق الإنسان لأن النظام قتل الناس بطريقة وحشية فالقتل مستمر منذ ثلاثين شهراً دون انقطاع ولكن ب "وسائل الحرب التقليدية" . هى حجج جوفاء وغير مقنعة هدفها فقط تحقيق أغراض عسكرية وسياسية محددة.إننى بطبيعة الحال ضد التخل العسكرى الأجنبى فى سوريا ، هذا أمر من المسلمات . أعارض بشكل كامل الضربة الأمريكية الصاروخية المحتملة فى العمق السورى. 2- فى نفس الوقت أشدد على أن كلمة "الأجنبى" تعنى كل من هو غير سورى . يعنى الغربى أو الأمريكى . ويعنى أيضاً أن الإيرانى على أرض سوريا أجنبى ، وحزب الله اللبنانى والمقاتلين "الجهاديين" المدفوع بهم إلى داخل سوريا أجانب. الرفض للتدخل الأجنبى يغطى الجميع دون استثناء ، وليس رفضاً جزئياً. أولاً : إن الفشل الإخوانى الذى حدث فى مصر ضرب فرص تكرار التجربة فى سوريا وربما يكون هذ أفضل للسوريين .. وكذلك فإن سقوط الإخوان هنا لا يبرر أى تدخل أجنبى فى مصر..لأن ما ترفضه الشعوب لا تفرضه الجيوش الغربية .. ثانيا : قضية الشعب السورى العادلة لن تتم – ولا يصح أن تتم – من خلال المنظور الإسلامى وفتاوى القرضاوى والدفع بالمقاتلين الأجانب من الإسلاميين الذين أساءوا لعدالة القضية ونبلها .. ثالثاً : بعد إزاحة الإخوان عن صدراة المشهد فى مصر ، أصبح المصريون جميعاً يداً واحدة ، وبالتالى تم إغلاق الثغرات وسد المنافذ التى يمكن أن تدخل منها قوات أجنبية إلى مصر ، اللهم إلا إذا فشلت الحكومة فى توفير فرص عمل وإطعام الفقراء فساعتها فقط ربما تقوم ثورة جياع يستفيد منها الإخوان مرة أخرى .. أخيراً : الحفاظ على سوريا ومصر كوحدة متكاملة ودولة لا تتجزأ أو تنقسم هو مسئولية الجميع وابناؤها فى المقام الأول بدءاً بالنظام الموجود ومروراً بالمعارضين له من الشرفاء ، أما الأجانب (كما قلنا من الأمريكى إلى الإيرانى والروسى والخليجى) فلا يكترثون بذلك أبداً ، ولا يمكن مطالبتهم به . المسؤولية تقتضى أن يتحاور السوريون بدلاً من أن يقتتلوا . وهم الحل العسكرى يجب أن يتبدد أولاً . أما إذا استمر فعلى الدولة السورية السلام. وفى النهاية تبقى كلمة .. يخطىء من يظن أن أمريكا وإسرائيل تريد القضاء على نظام بشار الأسد فهو الأفضل لاستقرار الدولة اليهودية ، وإذا تم تقسيم سوريا وحصل المسلمون السنة – ومنهم جهاديون وتكفيريون ومنتمون للقاعدة والإخوان – على الجزء الأكبر من الأراضى السورية ، فهذا معناه أن تعيش تل أبيب فى رعب وهجمات مستمرة ، كما أن الضغط على بشار الأسد بضربة عسكرية "محدودة" ربما "يفتح" شهيته للسلام ، ويقلل من تشدده وعناده .. وأيضاً الاعتماد على أن روسيا قد تقوم بعمل عسكرى لمساعدة سوريا، اعتقاد خاطىء تماماً .. فما تفعله موسكو فى البحر المتوسط هو دفعه للروح المعنوية السورية ، وإثبات أن لها دوراً إقليمياً لم ينته بعد ، أما التدخل العسكرى فلن تقدم عليه لأن لها مصالح وتوازنات تحرص على ألا تضيع.. واعتقد أن الصورة اتضحت الآن ، لماذا تختلف مصر تماماً عن سوريا، ولماذا نستبعد توجيه ضربة عسكرية لها قريباً رغم كل اجتهادات المحللين الناصريين والقوميين وغيرهم من "نجوم الفضائيات" الذين لم يطلقوا رصاصة فى حياتهم ، وأصبحوا فجأة استراتيجيين عسكريين!!!