منذ أن تولى حزب البعث السلطة في سوريا عام 1963، وهو يواجه تحديات من قِبل جماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية الأخرى التي كانت -وما زالت- تعارض سياساته بشدة في سياق صراع مفتوح خلال 30 عاما (1970 - 2000) من حُكم حافظ الأسد. وكشفت مجلة "فورين آفيرز" الأمريكية أنه مؤخرا خلال حكم بشار الذي لم يختلف عن والده في قمعه الوحشي للانتفاضات التي تهدد النظام، كما لو أنهما كانا يدركان أنه إذا ما وصل الإسلاميون إلى السُلطة في أي وقت؛ فإنهم سيتعاملون معهما وذويهما بلا رحمة.. في فبراير 1982 قمع الأسد (الأب) تمردا لخصومه الإسلاميين في مدينة حماة، وهو ما فعله الابن مجددا بعد مضي ثلاثة عقود، بمدينة حمص في فبراير 2012.
والغريب أن الأحداث كانت متشابهة بشكل ملحوظ؛ حيث اشترك كل من حافظ وبشار في بطء إدراك ومعالجة موجة الشكاوى (ارتفاع معدلات الفقر، والفساد، والإهمال الحكومي) التي تشعل نار الانتفاضات؛ ونتيجة لانشغالهما بالشئون الخارجية؛ فشلا في إيلاء مزيد من الاهتمام للداخل، بل إنهما كانا يغضّان -في كثير من الأحيان- الطرف عن التجاوزات، وتربح المقربين منهما، بمن فيهم أفراد أسرتيهما.
والأهم من ذلك أن كليهما كان يعتقد أن صراعه لا يقتصر فقط على المعارضة الداخلية؛ ولكنه يمتد إلى مؤامرة أمريكية-إسرائيلية للإطاحة بهما، مدعومة من قِبل بعض أعدائهما من العرب، وترسخ في عقل حافظ الأسد أن معركته مع الإسلاميين كانت امتدادا لنضاله الطويل غير الناجح مع إسرائيل والولاياتالمتحدة حول طبيعة التسوية السياسية بعد حرب أكتوبر 1973، فبمجرد أن انتهت الحرب عارض بشدة اتفاقية هنري كيسنجر لفك الارتباط في سيناء 1975 التي أنهت المواجهة بين مصر وإسرائيل.
كما أنه فسر اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 -برعاية الولاياتالمتحدة، ومعاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية في العام التالي- على أنها مؤامرة لترك العالم العربي بلا أي دفاع في مواجهة القوة الإسرائيلية، وكانت تلك هي المؤامرة الأخيرة -كما رآها- في سلسلة طويلة من المؤامرات الغربية؛ لتقسيم وإضعاف العرب يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الأولى.
بالطريقة نفسها.. رأى بشار الأسد في انتفاضة العام الماضي جزءا داخليا من مؤامرة خارجية تحيكها الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وبعض الدول العربية لإسقاط نظامه وإيران أيضا وبالتالي محور طهران-دمشق-حزب الله الذي يعتقد أنه العائق الحقيقي الوحيد أمام الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.
غير أن المؤامرات الخارجية التي اضطر حافظ وبشار للتعامل معها كانت من دون شك حقيقية جدا؛ في ظل دعم أمريكا الثابت لإسرائيل -بما في ذلك الجسر الجوي من الأسلحة خلال حرب أكتوبر- الذي وضع الجيوش العربية في مأزق؛ في حين استبعدت دبلوماسية كيسنجر أقوى دولة عربية (مصر) من تشكيلة الفريق العربي، وسمحت لإسرائيل بحرية غزو لبنان عام 1982، والبقاء هناك لمدة 18 عاما؛ ولكن التركيز على المؤامرات الخارجية أعمى حافظ وبشار عن المظالم المشروعة للشعب الغاضب؛ وهو ما أدى لمبالغتهما في استخدام القوة المفرطة لقمع خصومهما المحليين.
وبالمثل اتهم حافظ وبشار أعدائهما الخارجيين بتزويد المتمردين بأجهزة اتصالات متطورة أمريكية الصنع؛ فضلا عن الأسلحة والأموال.. في عام 1982 صادر النظام 15 ألف بندقية آلية، بينما في الشهر الماضي؛ عندما استعاد نظام بشار السيطرة على حي بابا عمرو في حمص، زعم أنه ضبط شحنة كبيرة من الأسلحة والمعدات أجنبية الصنع.
ومع ذلك تبقى هناك اختلافات في المسارات المؤدية إلى الانتفاضات المميتة.. في عهد حافظ، بدأت مع انطلاق أعمال العنف، وحملة اغتيالات للمقربين منه، كان أكثرها درامية مقتل 83 ضابطا علويا من طلاب مدرسة المدفعية في حلب في يونيو 1979، عندما خرج الإسلاميون المسلحون مرارا من ملاذهم الآمنة في أعماق الجحور القديمة في حلب وحماة، وقتلوا بين عامي 1979 و1981 أكثر من 300 شخص أغلبهم من البعثيين والعلويين؛ وردا على ذلك قتلت قوات الأمن نحو 2000 من المعارضين خلال نفس الفترة، واعتقلت الآلاف منهم، وألقت بهم في السجون؛ حيث تعرّضوا للضرب والتعذيب.
وبعد أن فشلوا في إسقاط الحكومة عن طريق الاغتيالات، لجأ الإسلاميون المتمردون لاستراتيجية أكثر جرأة؛ عبر تنظيم انتفاضات واسعة في المدن بجميع أنحاء البلاد. وبلغت الانتفاضات ذروتها مع سيطرتهم على مدينة حماه أوائل فبراير 1982، عندما خرج مئات المقاتلين من مخابئهم وذبحوا نحو 70 من قادة البعثيين بين عشية وضحاها، وأعلنوا تحرير المدينة.
أما ما حدث مع بشار الأسد فكان انتفاضة ضد حكمه بدأت منذ العام الماضي، مع خروج التظاهرات في المدن الكبيرة، وعندما واجهها نظامه بالذخيرة الحية؛ حملت قوات المعارضة السلاح، وبدأت تنفيذ عمليات الكر والفر لشنّ الهجمات، ونصب الكمائن، وتنفيذ الاغتيالات ضد الجنود ورجال الأمن، والأهداف الحكومية، وبلغت المواجهة ذروتها مع استيلاء منشقي الجيش السوري الحر على حي بابا عمرو في حمص، بمساعدة الجهاديين الهاربين من العراق، ولبنان، والمملكة العربية السعودية.
في عام 1982، استغرق النظام 3 أسابيع؛ لاستعادة السيطرة على حماة، ومطاردة المسلحين، وقتل نحو 10 آلاف فرد؛ بينما في عام 2012، استمرت المعركة في حمص شهرا، وكما حدث في حماه منذ 30 عاما، خلفت الكثير من الأضرار؛ فضلا عن معاناة السكان المحليين، الذي حرموا الطعام والماء، والوقود خلال الشتاء القارس. وبعد هزيمة المتمردين في حمص، أرسل بشار جيشه لقصف واجتياح النقاط الحصينة الأخرى للمنشقين؛ ولا سيما في إدلب، شمال البلاد.
حتى الآن في التمرد ضد بشار لا يبدو أن هناك مجموعة واحدة متماسكة من المقاتلين الإسلاميين، وإنما 4 أو 5 تيارات مختلفة (يدعمها أنصار خارجيون مختلفون) تعمل تحت مظلة المجلس الوطني للمعارضة السورية في تركيا؛ ولكن يبدو أن الإخوان المسلمين هم المتلقي الرئيسي للأسلحة والتمويل من ليبيا، وقطر... وغيرهما، ويظهر أن الجميع ضالعون بالتأكيد جنبا إلى جنب مع المنشقين عن الجيش والمقاتلين لحسابهم الخاص في معركة بابا عمرو.
يتفق معظم المراقبين على أن جماعة الإخوان المسلمين هي أفضل التنظيمات، وصاحبة أفضل تمويل بين جميع الفصائل المعارضة؛ غير أن جهاديي تنظيم القاعدة الأكثر تطرفا، الذين تسللوا من الدول المجاورة؛ لينضموا إلى المعركة في الأشهر الأخيرة، مسئولون عن عدد من التفجيرات الانتحارية ضد الأهداف الحكومية، وهو ما يمكن ربطه بدعوة أيمن الظواهري -الذي تولى قيادة تنظيم القاعدة بعد مقتل أسامة بن لادن- إلى الجهاد العالمي ضد النظام السوري.
ينبغي الاعتراف أن حملة الإرهاب الطويلة ضد حافظ الأسد بين عامي 1976-1982، كانت ضربا من الجنون السياسي وبعد تغلبه عليها؛ فقد ضمن لنفسه نحو عقدين إضافيين من الحكم، وبالمثل فإن تسليح عناصر المعارضة ضد بشار الأسد لم يأتِ في صالح قضيتهم؛ ولكنه أعطى نظامه مبررا لسحقهم.
ومن اللافت للنظر أن انتصار نظام بشار في حمص؛ قاد الأزمة إلى منعطف جديد، بما يعطي فرصة للمفاوضات التي يرأسها كوفي عنان -الأمين العام السابق للأمم المتحدة- للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وتهيئة الظروف لإجراء حوار بين النظام ومعارضيه.
ورغم استمرار النظام في حملته القمعية، ورفض المتمردين المسلحين التخلي عن سلاحهم، تتبقى الآن فرصة ضئيلة لنجاح عنان؛ لأن في كلا المعسكرين رجالا يدركون فشل الحل العسكري للأزمة في سوريا وإيران على السواء.
كما أن مبادرة عنان تنعكس في جهود كاثرين آشتون -مفوضة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي- لفتح حوار مع إيران؛ ولهذا ينبغي إعطاء صانعي السلام فرصة؛ بغض النظر عن الكثير من الصقور -في الولاياتالمتحدة وفي إسرائيل وفي بعض العواصم الأوروبية والعربية- الذين يحلمون بتغيير نظامي طهرانودمشق، ولا يقنعون بشيء أقل من ذلك.
حافظ وبشار استخدما القوة الوحشية لسحق خصومهما.. حافظ -الذي كان محلّ خشية وإعجاب شديدين- انتصر على أعدائه، وحكم 30 عاما حتى وافته المنية لأسباب طبيعية. أما بشار فأكثر عرضة للخطأ، وأكثر غموضا، وإرباكا من والده، ومن الواضح أنه ليس من نفس القالب التقليدي للقادة العرب؛ ورغم أنه تمكن من البقاء على مدى عام كامل من عمر الانتفاضة؛ يبدو أنه من غير المحتمل أنه سيحقق نفس رقم والده.