كل عام يدعونى الصديق د. موسى نوس الصيدلى فى عمارة رمسيس إلى الإفطار مع عدد من الأصدقاء .. تصادف أن يوم الأثنين كان موعد الإفطار السنوى للشلة فى شقته المطلة على الميدان .. خرجنا للشرفه لاستنشاق نسمات باردة تلطف الجو الملتهب فى الصيف ولنسمع آذان المغرب من مسجد الفتح المواجه للمبنى .. عرفنا أن الباعة الجائلين ينظمون إفطارهم السنوى فى الميدان حيث وضعوا "ترابيزات" متلاصقة وكراسى وبدا منظرها من الدور السابع حيث يسكن د. موسى أشبه بمسطرة حرف T التى يستخدمها طلبة الهندسة .. انطلق الآذان ودخلنا للإفطار , وما هى إلا دقائق عشر إلا واشتعل الميدان حيث اشتبك الباعة مع حشد إخوانى كبير جاءوا لاحتلال شارع رمسيس .. انضم الأهالى وبعض سكان منطقة الفجالة فى معركة حامية الوطيس ضد الغزو الإخوانى الذى أراد إحداث شلل مرورى فى العاصمة مع احتلال كوبرى 6 أكتوبر لفصل شمال القاهرة عن جنوبها بما يشبه تقسيم بيروت فى الحرب الأهلية اللبنانية فى السبعينات .. لم يكن معى كاميرا لإلتقاط صور دقيقة واكتفيت بعدسة الموبايل ، ولفت انتباهى أن الباعة يدافعون عن الميدان بإعتباره أكل عيشهم .. وكانت الصرخة الأولى التى استنفرتهم هى "يا قاطع قوتى .. يا ناوى على موتى".. المعركة أخذت بعداً اجتماعياً ومعيشياً .. فهؤلاء الباعة لا ينتمون إلا إلى أكل عيشهم لذلك كان دفاعهم عنه مستميتاً بل ومميتاً حيث سقط 7 قتلى من الجانبين وأصيب أكثر من سبعة آلاف.. ودعونا نرصد المشهد ودوافعه وأسبابه لنخلص إلى نتائجه بعد ذلك .. مسيرات ، احتفائات ، هتافات ، اشتباكات ، أدخنة قنابل غاز ، أعيرة خرطوش ، زجاجات "مولوتوف" ، دواليب سيارات محروقة ، كتابات غرافيتى مسيئة ، أعلام مرفوعة ، بقايا شباشب متناثرة ، بضائع مكسورة ، أعين زائغة ، أجواء مشحونة ، أصوات مبحوحة ومشاهد مفزعة ميزت ليلة ليلاء. الكل اتفق أنها كانت ليلة ليلاء . أنصار "الشرعية والشريعة" المطالبون بعودة الدكتور محمد مرسى إلى سدة الحكم مع عدم احتساب الأيام الماضية من فترة رئاسته ، يؤكدون أن الليلة لم تكن إلا خطوة على طريق "نصرة الإسلام" وإعادة مرسى ، لكنها كانت ليلاء. وأنصار "الإنقلاب الشعبى" على أول رئيس مدنى منتخب يخفق إخفاقاً تاماً فى إدارة شئون البلاد ويقسم شعبه نصفين ، يجزمون بأن الليلة كانت مسماراً إضافياً فى نعش الجماعة وحلفائها ، لكنها كانت ليلة ليلاء أيضاً. البناء الدرامى لليلة متطابق ,، والديكور واحد ، والسيناريو كما هو ، وتطور الأحداث متفق عليه , والمؤثرات الصوتية لا خلاف عليها , وأبطال العمل يعرفهم الجميع , وعلى رغم ذلك خرجت أحداث الليلة الليلاء بنسختين متناقضتين متضادتين , لعب الطيب فى النسخة الأولى دور الشرير فى النسخة الثانية , والعكس. سكان القاهرة المطلة بيوتهم على مسيرات "الشرعية والشريعة" والواقعة أعمالهم فى مواقع احتجاج أنصار مرسى والذين تصادف مرورهم فى أماكن أداء صلاة التراويح بعرض "كوبرى أكتوبر" في هذه الليله يحكون قصصاً وحكايات عما جرى ودار. القابعون فى بيوتهم أظلموا شققهم , وأكتفوا بالفرجة من وراء النوافذ لفداحة المشهد الذى اختلط فه البشر الغاضبون بالشوم المرفوع , ورفعت فيه أعلام مصر التى تم التلويح بها بكثافة عساها تنسى المتفرجن رايات الجهاد السوداء وأعلام الجماعة الخضراء. أبطال رمسيس أما الباعة الجوالون المرابطون فى ميدان رمسيس , فاستعدوا لاستقبال مسيرات "الشرعية والشريعة" الآتية لاحتلال الميدان , حيث أكل عيشهم ومنطقتهم التجارية المحررة من نفوذ الشرطة منذ أشهر والقادرين فيها على الضرب بعرض الحائط بأية قوانين , بتحذير شديد اللهجة موجه إلى الجماعة وأتباعها بعدم الإقتراب من الميدان , وأعلى "كوبرى أكتوبر" تم تنفيذ الخطة "الإخوانية" بشل القاهرة بحذافيرها , إذ أقام الأنصار والأتباع صلاة التراويح بعرض الجسر رغم أنف السيارات التى أضطرت للتوقف بعيداً بعدما أشعل المصلون الذين يزعمون سلميتهم إطارات السيارات لتنير لهم المكان. التظاهرات والمسيرات "السلمية" -اسما فقط-الهادفة إلى إعادة مرسى إلى القصر نقلتها عدسات مواطنين من هواة التصوير , وتغريدات مواطنين ينقلون الأحداث بينما تجرى , وكاميرات تليفزيونية تتابعها الملايين مرة عبر الصورة الحية ومرة اخري عبر المراسل الناقل للتطورات. وبين مشاهد سكان رمسيس وغمرة الذين شكلوا لجاناً شعبية لتأمين بيوتهم وعائلاتهم من شرور مسيرات "الشرعية والشريعة" الغاضبة , إلى شهادات لمارة يحكون فيها عن استعدادات الباعة الجائلين بكل ما أوتوا من أدوات شرعية للدفاع عن النفس من حراسة وتأمين لبضائعهم وأخرى غير شرعية من أسلحة بيضاء وزجاجات "مولوتوف " خضراء , وما خفى كان أعظم. ونجح أهل رمسيس فى هزيمة الإخوان واقتيادهم "أسرى" إلى مسجد الفتح حتى أفرجوا عنهم ظهر الثلاثاء ولم ينسوا أن يقدموا لهم السحور والمياه.. ماخفى من تفاصيل الليلة الليلاء سيظل حديث الأيام المقبلة إلى أن تحل ليلة ليلاء أخرى , فما بدا عنكبوتياً وتلفزيونياً وبرؤى العين أنه الوجه الوحيد للحقيقة , التى هى نية مبيتة لأنصار "الشرعية والشريعة" لإصابة العاصمة بالشلل والضغط على جموع المصريين بحبسهم وعزلهم فى الطرقات والميادين وأعلى الكبارى علهم يطالبون معهم بعودة أول رئيس مدنى جاءت به الصناديق , تعامل معه الجانب الآخر "الإخوان" على أنه محض كذب وصميم إفتراء وخلاصة الدعاية السوداء وخبرة إعلام الفلول وتجسيد لحرب الإشاعات التى تحاول تشويه "مليونيات الشرعية التى تبهر العالم". عنصر الإبهار الذى ركزت عليه جريدة "الحرية والعدالة" فى صدر عددها الصادر الأسبوع الماضى تحدث عن نفسه فى مئات التحالفات التى لم يسمع عنها أحد من الفريق الآخر والتى انتفضت لنصرة الشرعية وحماية الشريعة . فمن "أعضاء هيئة تدريس الجامعات" إلى "تحالف جامعيون ضد الإنقلاب" إلى "ألتراس أزهرى" إلى حركة من أجل الإصلاح" وغيرها من الحركات والائتلافات التى يشير إليها أنصار الجماعة عبر مواقع التواصل الاجتماعى وعلى شاشات القنوات الداعمة للشرعية والشريعة "انتفضت مدن مصر ومحافظاتها" بل وبعض المدن الأجنبية , ومنها إسطنبول للمطالبة بالشرعية والشريعة. أحداث هذه الليلة التى أبهرت العالم , بحسب القصة "الإخوانية" , وأزعجته , بحسب الرواية غير "الإخوانية" , كانت دليلاً دامغاً على أن الجماهير العدوانية مع عودة مرسى , وهى الجماهير التى أتت من كل حدب وطريق سريع وآخر بطىء وميكروباص مؤجر وباص مملوك للجمعيات الدينية لنقل أنصار "الشرعية والشريعة" من القرى والنجوع والمحافظات للاعتصام فى رابعة والإنطلاق بحسب الخطط الموضوعة , مرة للزحف , ومرة للعبور , ومرة ثالثة لاستنساخ غزوة بدر ولكن من أجل إعادة مرسى إلى القصر. كتابة الوصية تغريدات المرشد العام لجماعة "الإخوان" محمد بديع تطالب المرابطين فى "رابعة" بالاستعداد ل "بدر الثانية" وتؤكد أن "حكم مغادرة ساحة رابعة العدوية كحكم من يفر من المعركة والجهاد ضد الكفار" , داعياً إياهم إلى "الثبات حتى النصر" . أما الأخبار الواردة عبر جريدة "الحرية والعدالة" فتطمئن المعتصمين إلى "إعداد خيمة متخصصة للوصية" , حيث "يقوم المعتصمون بكتابة وصيتهم قبل الشهادة تأكيداً منهم على الشهادة بسلمية كاملة". وتكتمل ملامح القصة عبر قناة "الجزيرة مباشر مصر" التى لا تبث إلا أخبار الجماعة وحلفائها وتفاصيل اعتصام رابعة العدوية وبعضاً من المسيرات السلمية , مع آراء الضيوف والمعلقين الداعمين للشرعية والشريعة ورسائل الحب والعشق للدكتور مرسى القادمة من القرى والنجوع ومن المجاملين من اليمن وقطر وتونس وتركيا وغيرها. الكاميرا المثبتة فى داخل دار مناسبات رابعة العدوية الذى تحول الي غرفة عمليات للاعتصام , استعدت لاستقبال مصابى أحداث رمسيس قبل وقوع الاشتباكات . وحرص زملاء المصابين على مساعدة المصور بعرض المصابين على الشاشة أولاً قبل تلقى العلاج , وبينما الكاميرا تغازل الناطق باسم الجماعة الذى يتوسط الكادر ويتحدث عن مئات المصلين الذين تم استهدافهم فى رمسيس وحملهم زملاؤهم على الأعناق ليتلقوا العلاج فى رابعة العدوية , وهى مسافة تبلغ بضعة كيلومترات.!! وفى انتظار ليلة ليلاء جديدة متوقعة , أو نهار أغبر آخر منتظر , يعرف المصريون أنهم موعودون بقصة ذات وجهين متطابقين متناقضين فى توزيع الأدوار.