يحتاج إدراك المعادلات الحاكمة للعلاقات الدولية، والإمساك بمفاتيح السياسات الدولية في المستقبل المنظور، إلى معرفة تداعيات الأزمات بأبعادها المختلفة؛ وذلك كي نستطيع تطوير علم العلاقات الدولية. ومن هنا بات الحديث عن الأزمة السورية أمراً مهماً، وخاصة بعد توقع البعض بأنها لن تبتعد عن السيناريوهات التالية: إما أن تكون دولة وطنية مدنية على النموذج التونسي، أو دولة محاصصة طائفية على النموذج العراقي، أو دولة الطوائف المتصارعة، أو دولة جهادية سلفية إخوانية. وفي ذكرى أداء بشار الاسد لليمين الدستورية أمام مجلس الشعب كرئيس لسوريا ، ما هي الآثار المترتبة على تلك السيناريوهات السابقة ( رحيل النظام السوري أو بقاؤه) على منطقة الشرق الأوسط؟. صراع مرير وفي بداية الأمر نود الإشارة إلى أنه يمكن وصف الأزمة السورية، بأنها أزمة سياسية عميقة، تسببت في إحباط قطاعات واسعة من الشعب السوري، تتطلع إلى الإصلاح السياسي، واحترام حقوق الإنسان. وأدى هذا الإحباط نتيجة غياب "الحل السياسي"، والقمع المفرط الذي تقوم به الحكومة السورية لقوي المعارضة، إلى تحول الانتفاضة الشعبية السلمية التي بدأت منذ نحو تسعة عشر شهراً إلى مواجهة عسكرية عنيفة بين الحكومة من جهة، وجماعات المعارضة المسلحة، من جهة أخرى. ونظراً لذلك الصراع المرير والاشتباكات المسلحة بين المعارضة والقوات الحكومية، حدثت خسائر فادحة في صفوف المدنيين، وأصبحت الجمهورية العربية السورية غارقة في العنف، ومعرضة لخطر حرب أهلية شاملة، بما قد يترتب على ذلك من تداعيات مهمة ليس فقط على الشعب السوري، وإنما أيضاً على الدول المجاورة في المنطقة. وفي هذا السياق، يمكن رصد تأثير "توابع" الأزمة السورية في منطقة الشرق الأوسط على عدة مستويات. النظام الإقليمي العربي فلكون سوريا "رمانة الميزان الإستراتيجي العربي" وخاصة لموقعها الجغرافي المتميز من جهة، ولرعايتها دعوة القومية العربية، سواء على مستوي الفكر أو الحركة، من جهة ثانية، ولرفعها لواء المقاومة والممانعة ضد المشروع الإسرائيلي المدعوم من الغرب من جهة ثالثة، يرى بعض الخبراء أن إزاحة النظام السوري الحالي سوف تؤدي إلى خروج سوريا من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي. بينما يشير كثير من المراقبين إلى أن استمرار نظام بشار الأسد في السلطة سيؤدي، على الأغلب، إلى فصل سوريا عن الجسد العربي، بعد تكرار المطالب العلنية من جانب غالبية الدول العربية برحيل نظامه لوقف نزيف الدم السوري، ولجوء عدد من الدول الخليجية إلى تسليح المعارضة، بل ومطالبة قطر بالتدخل العسكري المباشر للإطاحة بنظام الأسد. وبالتالي يتفق معظم المحللين على أن انفصال سوريا، في ظل قيادة الرئيس بشار، عن محيطها العربي سيؤدي إلى توفير مزيد من الحماية والأمن لإسرائيل، بما يجعلها قوة مهيمنة على الشرق الأوسط، في ظل الاختلال الشديد لتوازن القوى الإستراتيجي بينها وبين الدول العربية. أما في حالة سقوط نظام الأسد، فسيؤدي، على الأرجح، إلى المحافظة على هوية سوريا العربية، ودورها الحيوي في المنطقة، كما سيضعف أيضاً من حدة التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي على الدول العربية، ويقلل من التهديدات الإيرانية للأمن القومي العربي، ويدفع في اتجاه المزيد من التطور الديمقراطي في الدول العربية، وخصوصاً لو تحقق ذلك قبل انخراط سوريا في حرب أهلية قد تطول وتأتي على كيان الدولة المتعددة الطوائف. تحدّ إيراني وعلى مستوى العلاقات مع إيران، يرى المراقبون أن سقوط نظام سيشكل تحدياً هائلاً لطهران، خاصة بالنسبة لجناح المتشددين الذي يرى في الأزمة السورية مؤامرة أمريكية - صهيونية، هدفها الأساسي هو إضعاف وتحجيم الدولة الإيرانية. ولاسيما لأن سقوط نظام الرئيس بشار الأسد سيؤدي إلى حالة من التغيير الجذري في المنطقة، وسيكون لذلك تداعيات مهمة على طهران، فالدولتان تدركان أن سقوط إحداهما سيكون مقدمة للتدخل الخارجي في شئون الأخرى، وربما إسقاطها. أما في حالة بقاء النظام في السلطة، ستستمر العلاقات وهي العلاقات الإستراتيجية الوثيقة التي هي احتفظت بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية لأكثر من ثلاثين عاماً مع نظام الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، ومن بعده ابنه بشار. إسرائيل وسيناريو متوقع أما على المستوى الإسرائيلي، يرى المراقبون أن استمرار الأزمة السورية، سواء بقي نظام الأسد أو رحل، سيجعل التوازن الإقليمي يميل لمصلحة إسرائيل التي ستحصل على جار شمالي ضعيف، تتنازعه عصابات مسلحة متفرقة، لا تستطيع مقاومة أو منع الجيش الإسرائيلي من الدخول إلى دمشق، أو الوصول إلى إيران، إن أراد ذلك. فعلى مستوى العلاقات (اتفاقية السلام) مع إسرائيل، فمن الصعوبة بمكان تقدير أثر سقوط نظام الرئيس الأسد على مستقبل السلام بين سوريا وإسرائيل، فخلال الأعوام الأربعين الماضية من حكم أسرة الأسد لسوريا، فشلت كافة الجهود التي بذلت لحل الصراع السوري - الإسرائيلي. وفي ظل هذا الميراث التاريخي الطويل من العداء، يرجح بعض المراقبين أن الساسة السوريين سينظرون إلى السلام مع إسرائيل باعتباره "مغامرة خطيرة"، وبالتالي فلن يقدموا عليه إلا بعد تعزيز أوضاعهم الداخلية، وهو الأمر الذي لا يبدو ممكناً في المستقبل القريب، سواء بقي الرئيس الأسد في السلطة، أو رحل. ولذلك، فإن السيناريو المتوقع، في الأجل القصير، هو استمرار جمود مسار السلام السوري - الإسرائيلي والتي تتزايد احتمالاته مع استمرار نظام الأسد في السلطة، وخاصة لأن نظام الأقلية العلوية في دمشق سيفضل استمرار المواجهة مع إسرائيل باعتبارها ذريعة مناسبة لقمع الشعب السوري، تحت مظلة حماية الأمن القومي السوري. الدول المجاورة من ناحية أخرى، يقود استمرار الأزمة السورية، في ظل وجود الرئيس بشار الأسد أو عدمه، انتشار الصراعات الطائفية، والعمليات "الجهادية" المسلحة في الدول المجاورة لسوريا، وهو ما ظهر جلياً في عدد من الأعمال الإرهابية التي وقعت أخيراً في مصر وتركيا ولبنان. فيرى المحللون أنه من الوارد جداً أن تؤدي الفوضى السورية إلى انتشار الصراعات الطائفية في كل من الأردن ولبنان لوجود امتدادات عرقية وطائفية في هذه الدول، ذات صلة بالوضع السوري. فكلما استمر القمع الوحشي من جانب نظام الرئيس الأسد للمعارضين السياسيين، زاد انتشار العنف والكراهية بين الطوائف المتعددة في المنطقة، وزاد العنف المتبادل بينها، وهو ما كان واضحاً في لبنان وتركيا بشكل ملموس في الآونة الأخيرة. وعلى مستوى العراق، يرى البعض أن الأراضي السورية أيضاً ملاذاً آمناً للمسلحين العراقيين المعارضين للنظام الحاكم في بغداد، ومقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين يستهدفون إنشاء دولة مستقلة عن تركيا. وعلى مستوى لبنان، فقد يؤدي سقوط نظام الرئيس الأسد، إلى تحقيق درجة ما من الاستقرار في لبنان على الأقل؛ نظراً لأن حرمان حزب الله من الدعم السوري والإيراني سيؤدي إلى تشجيعه على الممارسة الديمقراطية، واحترام القوى السياسية الأخرى في لبنان. الشأن المصري وحول تداعيات الأزمة السورية على الشأن المصري، فإن استمرار الرئيس بشار الأسد في السلطة، من شأنه عرقلة عملية تحسين العلاقات المصرية - الإيرانية، بما في ذلك إمكانية قيام الدولتين بالتعاون في المجال النووي مستقبلاً. من ناحية أخرى، يرى البعض أن استمرار الرئيس الأسد في السلطة سوف يؤدي إلى زيادة العمليات المسلحة في مصر، خاصة في منطقة سيناء، نتيجة رفع الجماعات المسلحة شعارات الجهاد لنصرة الشعب السوري. خلاصة القول، يتفق معظم المحللين أن الأزمة السورية ستظهر تأثيراتها على الخريطة الجيوبوليتيكية في المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل، فهي لا تزال تشكل تحدياً كبيراً للنظام الإقليمي العربي، وأن أكثر تداعياتها السلبية (في حالة استمرارها أو عدمه) هو تمدد الصراع الداخلي في سوريا إلى جيرانها في لبنان، وتركيا، والعراق.