ترجمت واشنطن مواقفها مما يجري على الساحة المصرية من أحداث ملتهبة، بإدانتها لعنف الإخوان المسلمين ، وحضها على الانتقال الديمقراطي السريع للسلطة، لتعبر عن انتهاجها مسار دقيق بشأن الأزمة في البلاد بعدما تحرك الجيش لعزل الرئيس محمد مرسي وتعليق العمل بالدستور، لكن هذا المسار لم يصل إلى حد الإدانة أو الدعوة إلى إعادة مرسي إلى سدة الحكم، وهي هنا بالفعل تقوم بالبحث عن نظرية "الأفيال الطائرة". كانت الإدارة الأمريكية قد عبرت عن قلقها من أن يؤدي الوضع الجديد بعد عزل مرسي إلى مستقبل فوضوي غير ديمقراطي وعنيف، وتزايد إحباطها من مرسي، خاصة أنه لم ينصت إلى أصوات الشعب أو يستجب لها. وعادت أمريكا الآن لتدين أعمال العنف التي وقعت في محيط دار الحرس الجمهوري، داعية الجيش لضبط النفس، بالإضافة إلى إدانة دعوات العنف التي تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين. فهل حقا تتحسس الولاياتالمتحدة مسار الانتقال الديمقراطي السريع للسلطة في مصر؟ أم أنها تصنع لنفسها غطاء من التوازن ومحاولة مسايرة الوضع الراهن لتخفي وراءه عباءة المصالح الأمريكية؟. استجواب أوباما وعلى ذكر الأحداث الأخيرة التي وقعت في محيط دار الحرس الجمهوري وسقوط عشرات القتلى والجرحى فيها، فقد ألقت هذه الأحداث بظلالها على الواقع السياسي الأمريكي، حيث تعرض الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاستجواب طارئ في الكونجرس بدعوى دعمه لحكم الإخوان المسلمين وتقديم مبلغ 1.5 مليار دولار كدعم مالي مباشر لهم. وقد رأى العديد من السياسيين المصريين أن هذه الأحداث التي راح ضحيتها 42 قتيلا على الأقل حسب بيانات وزارة الصحة المصرية، جاءت كضربة استباقية مرتبة لدعم الرئيس الأمريكي أوباما في الاستجواب أمام الكونجرس، للادعاء بأن الجيش المصري يقتل بدم بارد المؤيدين للرئيس المعزول محمد مرسي. وبغض النظر عن النتائج التي توصل إليها هذا الاستجواب الأمريكي، فإن المتأمل في فترة ولاية الرئيس الأمريكي الأولى يجد أنه لم يكن هناك اهتمام من وزارة الدفاع "البنتاجون" بتلك المشاكل المثارة حول علاقة أوباما بالإسلاميين في الشرق الأوسط المتنامية خاصة بعد الصعود الإسلامي عقب الربيع العربي. وربما يكون هذا التوجه عكس المسار الأبدي للسياسة الخارجية الأمريكية، على حد وصف العديد من المحللين والمراقبين، والذي ترجم نظريا بالحماس الشديد للديمقراطية، وعمليا بالخوف الشديد من الشيوعيين والإسلاميين المنتخبين، والانجذاب للعسكريين الذين يتخذون موقفا أكثر دعما للغرب منذ زمن عتيق. لكن هذا التوجه اتخذ شكلا مختلفا في ظل الفترة الثانية لإدارة أوباما الحالية، حيث لا يريد أوباما أن يعطي انطباعا بأن الولاياتالمتحدة تختار من يحكم في العالم العربي. وتكررت بيانات البيت الأبيض القائلة بأن الأمر يرجع للشعب المصري في تقرير ما يحدث على الأرض، وأن الولاياتالمتحدة تدعم المبادئ الأساسية وليس الأفراد أو الأحزاب. ولكن هل حقا يعمل أوباما على هذا المسار من الموقف الحيادي دائما؟،الإجابة قطعا بأنه لا يستطيع التظاهر بأن الولاياتالمتحدة مراقب محايد، فواشنطن تخطط لمنح 1.3 مليار دولار للجيش المصري العام المقبل، وهو ما ورد مباشرة على لسان الرئيس أوباما في أول ردة فعل له حيث قال إنه أمر بإجراء مراجعة للوقوف على مدى ملائمة الدعم للقانون الأمريكي بعد عزل مرسي. الأفيال الطائرة ونحو هذا الصدد، لا استغراب في القول بأن معضلة سياسة أوباما من المشهد المصري تتمثل في نظرية "الأفيال الطائرة"، ففي طرفة هندية قديمة قرر مهراجا هندي معاقبة أحد وزرائه على جناية اقترفها.. فتوسل الوزير أن يمهله المهراجا سنة ليعلم فيها فيله الأبيض الطيران تكفيراً عن جنايته فوافق المهراجا وعندما قلق أصحاب الوزير على فكرته الانتحارية المتهورة، قال لهم: ما عليكم.. فربما يموت هذا الفيل خلال العام، أو ربما تحدث معجزة ماأو .. إلخ. وهذا هو ما تحاول الإدارة الأمريكية القيام به، حيث صارت القاعدة العامة التي تحكمها هي "ربما يفضل أوباما ألا يملك مقاتلا في هذه المعركة، لكنه يملك واحدا، وهو يطالبه بألا يقاتل، دون أن يجعله ساكنا". ففي بداية ردود الفعل الأمريكية على عزل الرئيس مرسي، دعا الرئيس الأميركي باراك أوباما "الحكم العسكري المصري إلى إعادة جميع السلطات سريعا وبشكل مسئول إلى حكومة مدنية منتخبة ديمقراطيا من خلال عملية مفتوحة وشفافة". وطلب أوباما في بيان بعد اجتماع مع مستشاريه في الأمن القومي بالبيت الأبيض التأكد من أن الحماية مؤمنة لجميع المصريين والمصريات، خصوصا حق التجمع سلميا وحق المحاكمات العادلة والمستقلة أمام المحاكم المدنية، ودعا جميع الأطراف إلى تحاشي العنف والالتفاف من أجل عودة دائمة إلى الديمقراطية في مصر. كما أعلن أوباما أنه سيطلب من الوكالات والوزارات المعنية دراسة التداعيات الشرعية للوضع الجديد بالنسبة للمساعدة الأمريكية التي تدفع سنويا لمصر والتي بموجب القانون الأمريكي لا يمكن أن تدفع لبلد جرى فيه انقلاب عسكري. ولكن الآن بعد أحداث الحرس الجمهوري الأخيرة، خرج البيت الأبيض سريعا عبر بيانه الذي أدان الأحداث، وقال إنه "يدرس ما إذا كان ما حدث في مصر انقلاباً"، داعياً الجيش المصري لممارسة أقصى درجات ضبط النفس في الرد على المحتجين. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني، إن الولاياتالمتحدة مازالت قلقة من العنف المتزايد والاستقطاب السياسي في مصر. وعلى الجانب الآخر دعا البيت الأبيض السلطة الانتقالية في مصر إلى تجنب الانتقام والاعتقالات والقيود على وسائل الإعلام، وعبّرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية جنيفر بساكي عن أن واشنطن "تشعر بقلق عميق" من العنف المتزايد في مصر. مسارات مختلفة إذا دواعي الحال تأخذنا إلى القول بأن ثمة تحول واضح في موقف الإدارة الأمريكية إزاء المشهد المصري لنصبح أمام عدة مسارات محتملة للعلاقات المصرية الأمريكية بفرض أن هذه العلاقات لن تأخذ مسارها الفعلي والمحدد إلا بعد وضوح المشهد المصري واستقراره على أحد الكفتين. فعلى أحد الجوانب في ظل الاعتراف بما تواجهه البلاد من أزمة عصيبة اختلط فيها الحابل بالنابل وسط انقسام حاد لأطراف المشهد القاتم، فضلا عن المشاكل الاقتصادية الطاحنة التي عصفت ومازالت بالاقتصاد المصري، يكون من المحتمل ظهور خيار عودة العلاقات بين القيادة المصرية والأمريكية من قبيل إقرار المصالح المشتركة، بما يحقق للجانب المصري توفير الدعم الأمريكي لإنجاز الحصول على قرض صندوق النقد الدولي والمساعدات العسكرية البالغة 1.3 مليار دولار سنوياً. أما الخيار الآخر الذي يمكن التكهن به هو أن الأجندة المصرية ستتحول إلى البحث عن حلفاء جدد تقيم معهم شراكة على أساس المصالح المتبادلة على حساب العلاقات الأمريكية، إذا ما تم الاستناد إلى تيار الرفض الجارف الذي عم الشارع المصري اعتراضا على التدخل الأمريكي في الشأن المصري من الأساس، ويؤكد ذلك التوجه أيضا تعويل مصر في الفترة الأخيرة على البحث عن مصادر أخرى للعلاقات مع تركيا والصين. إلا أنه سواء على مستوى الخيار الأول أو الثاني المطروح أمام القيادة السياسية المصرية، يبقى التعامل بمبدأ تكافؤ المصالح وعدم تقديم التضحيات المطلقة مع صيانة الاستقلال والسيادة الوطنية. فحينما تصبح المساعدات وسيلة لابتزاز القرار المصري في غير صالح الوطن، لابد أن تنأى القيادة السياسية عن هذا الاتجاه، والالتفات فقط للبحث عن الحل الذي يخرج البلاد من عنق الزجاجة التي كادت تجهز على البلاد والعباد.