فى العالم كله نجد خلف كل قاض وداخل كل محكمة تمثالاً لإمرأة معصوبة العينين فى يدها ميزان وترمز للعدالة .. والمعنى واضح وهو أن العدل لا يمكن أن يميز بين الناس على أساس انتماءاتهم السياسية أو الحزبية أو لون بشرتهم أو نتيجة لثرائهم أو فقرهم .. العدل هو سيف الحق وميزان القسط فى أى مكان .. ومن ثم فإن القضاء لا ينبغى أن يفرق بين الناس , ولا يصطفى اتباعاً أو أصدقاء.. او مريدين ومؤيدين..وانما يحكم بين الناس بتجرد تام ودون تدخل الاهواء والمصالح.. لذلك يقولون العدل اساس الملك ..او ..الحكم..فالملك او الرئيس او السلطان او الامير أو الوزير أو أى مسئول إذا لم يعدل سينتشر الظلم والفساد وتسود الفتن وتلتهب البلاد.. العدل هو الحصن الأول للدولة القوية .. تقدم الدول ورفعتها لا يكون بالثراء وقوة الاقتصاد فقط ولا بالجيوش الجرارة والأساطيل والأسلحة ، ولكن بالعدل.. القضاء فى كل الدول الديموقراطية كلمته نافذة ومسموعة ولا أحد يناقشها أو يجادلها .. لم نشهد مظاهرات ضد القضاء وأحكامه إلا فى مصر.. يريد الإخوان أن "يطهروا" القضاء كما يزعمون.. والقضاء ليس نجساً ليتطهر.. وإنما الكلمة أصبحت تطلق على أى أحد يختلف أيدولوجياً مع الإخوان المسلمين والرئيس.. من هنا نسمع كلاماً عن تطهير القضاء والإعلام والداخلية بل وامتد أحياناً إلى الجيش!. الكلمة ظهرت لأول مرة مع ثورة يوليو عندما احالت للتقاعد كل رجال العهد الملكى وصار "التطهير" سلاحاً غير قانونى فى يد رجال الثورة وضربوا به الفقيه الدستورى عبد الرازق السنهورى علقه ساخنه فى مكتبه.. لكن التطهير الذى حدث مع ديكتاتورية "عبد الناصر" لا يستقيم الآن مع الديموقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان وهى الأشياء التى يزعم الإخوان أنهم يستندون إليها بعد ثورة يناير 2011.. لا يمكن أن تسير المظاهرات الإخوانية ضد السلطة القضاية وتحاصر دار القضاء العالى أقدم حصون العدالة فى العالم (1932) لمجرد صدور عدة أحكام لم تعجب مكتب الإرشاد بالمقطم فأصدر الأوامر لأتباعه بإهانة السلطة القضائية.. الإخوان لم يعجبهم احكام صدرت مؤخراً أطلقوا عليها اسم "البراءة للجميع" تهكماً وسخرية ، ومنها حكم عزل النائب العام الحالى والإفراج عن مبارك فى قضية قتل المتظاهرين بعد انقضاء فترة حبسه احتياطياً واخلاء سبيله فى قضية الكسب غير المشروع ،وكذلك تبرئة المغربى وجرانه من تهم الاستيلاء على اراضى التجمع الخامس والغردقة.. من ثم فالتربص يبدوا واضحاً لأى شخص ينتمى لعصر مبارك وبالتالى لا يمكن اطلاق سراحه حتى لولم يكن هناك أى دليل ضده.. إن العدالة فى مصر ليست "عمياء" بل "عوراء"..!! فالمحكمة تصدر أحكامها وفقاً لما امامها من أدلة وبراهين واسانيد.. القاضى لا ينظر إلى اسم المتهم أو شخصيته .. عين القاضى "عمياء" لكن عين العدالة الأخرى وهى النيابة زرع لها الإخوان "قرنية" جديدة لتميز بين هذا وذاك.. يصدر القاضى حكمه وتسارع النيابة بالطعن عليه – صحيح هذا حقها – لكن المشهد يشى بأن هناك انقساماً بين القضاء والنيابة .. احدهما "أعمى" طبقاً للقانون والآخر "مبصر" كأوامر الإخوان والرئاسة.. النيابة "المبصرة" لم تحرك حتى الآن أى قضية تتعلق بملف "فتح السجون" أيام الثورة والمتهم فيها "الإخوان" ولا حققت فى البلاغات التى اتهمتهم بالتورط فى موقعة الجمل ، ولا أحالت أحداث قضية الإتحادية فى نوفمبر الماضى إلى المحاكم ، ولا وجهت اتهامات لقيادات الجماعة فى شأن تعذيب نشطاء أو ضربهم ، ولم تسأل عن حصار المحكمة الدستورية فى ديسمبر الماضى لمنعها من الحكم ببطلان تأسيسية الدستور ومجلس الشورى ،أو عن ملف حصار مدينة الإنتاج الإعلامى والإعتداء على الإعلاميين والمذيعين مرتين فى أغسطس 2012 وفى مارس الماضى.. الإخوان يريدون للقضاء أن يسير على خطى النيابة ، فيؤجل أو يتجاهل القضايا التى تمس الإخوان ، وينظر فوراً تلك التى تتناول خصومهم.. لقد استاء الإخوان من القضاء الذى أصدر عدة أحكام رأوها أنها تنال منهم مثل حكم محكمة القضاء الإدارى بحل الجمعية التأسيسية فى إبريل 2012 كما قضت المحكمة الدستورية بحل مجلس الشعب فى يونيو 2012 قبل أن يعيده مرسى بعد تولى الرئاسة.. لكن القضاء قرر مرة أخرى بطلان عودة البرلمان فى 2012 وأحال قانون تنظيم الإنتخابات إلى المحكمة الدستورية .. بالإضافة طبعاً إلى قرار عزل النائب العام الحالى فى 27 مارس 2013 .. القضاء بدأ ينظر فى فرار أحد المحكومين من سجن وادى النطرون وقت الثورة وتطرقها إلى خروج الرئيس مرسى وقيادات الإخوان من السجن نفسه.. فهل سيرضى الرئيس وجماعته ومرشده عن هذه الأحكام؟! القضاء أيضاً حكم بسجن رئيس الوزراء د. هشام قنديل وعزله من منصبه وهو الذى أصدر حكماً الأسبوع قبل الماضى ببطلان دعوة مرسى إلى الإنتخابات البرلمانية لأنها استندت إلى قانون غير دستورى.. الرأى العام بدأ يشعر أن الرئاسة والإخوان يريدون تطويع القضاء كما طوعوا النيابة.. لقد أعطت مؤسسة الرئاسة انطباعاً بالرضا عن ممارسات النيابة والاستياء من أحكام القضاء.. وبذلك أعطت مفهوما بأنها لا تعير أحكام القضاء اهتماماً ، وأنها بصدد "تفصيل" سلطة قضائية تمكن لها من أصحاب المقام الرفيع واسندت هذا القانون إلى مجلس عديم الصلاحية وغير دستورى وهو مجلس الشورى.. الرئيس نفسه هو الذى أعطى انطباعاً بأنه لا يقيم وزناً للقضاء عندما هدد معارضيه بالمحاكمة – أياً كانت مكانتهم – وزعم أن لديه أدلة ومستندات ضدهم.. ثم ظهر أنه ليس هناك براهين أو اثباتات تبرر اتهاماته.. بعد تمرير قانون السلطة القضائية , سيمكن إحالة المتهم إلى القضاء بلا أدلة أو براهين بل لمجرد الشك.. صحيح أن القضاه ليسوا ملائكة ، لكنها المؤسسة الوحيدة التى تطهر نفسها بنفسها ، لذلك لا ينبغى أن تتدخل السلطتان التشريعية والتنفيذية فيها أو تتغول عليها.. إن هناك أزمة ثقة بين السلطة القضائية من جهة ، والتنفيذية والتشريعية من جهة أخرى بعد حل مجلس الشعب السابق.. وعلى رئيس الجمهورية أن يزيل هذا الاحتقان فوراً فليس من مصلحة الشعب المساس بالسلطة القضائية.. والواقع أن المواطن المصرى البسيط يسأل نفسه سؤالاً هاماً: ماذا سأفعل إذا تم "أخونة" القضاء ؟ وإذا كان الإخوان ينادون بتطهير القضاء دون أن يقدموا دليلاً على فساده ، فماذا سنفعل إذا دخلنا فى خصومة مع عضو بالإخوان وفوجئنا بأننا أمام قاضى ينتمى سياسياً للجماعة ؟ كيف نطمئن إلى حكمه! وهل ستكون العدالة "عمياء" ساعتها أم "مبصرة" ترانا خصوماً لها..؟ إن أكثر ما يثير حنق القضاه أن مشروع السلطة القضائية الجديد يناقش فى مجلس الشورى المشكوك فى صلاحيته ، وهى المرة الأولى التى يتم فيها بحث أمر متعلق بالقضاء بعيداً عنهم وعن وزارة العدل ، ولعل هذا ما دفع المستشار أحمد مكى وزير العدل للاستقالة خوفاً على تاريخه رغم أنه كان محسوباً على التيار الإسلامى ، لكنه انحاز إلى زملائه وابنائه وكتب خطاب استقالته للرئيس مرسى.. لقد طبقت جماعة الإخوان اسلوبها المعروف بجس النبض عندما أوعزت لمرشدها السابق أن يصرح بخروج 3500 قاضى إلى المعاش.. ويبدو أن الإخوان المسيطرين على 90% من مقاعد مجلس الشورى يسعون لإصدار قانون لخفض سن التقاعد إلى 60 عاماً بدلاً من السن الحالية وهى 70 عاماً.. ودخل عصام سلطان نائب رئيس حزب الوسط على الخط وقال أن لديه أدلة على تورط قضاه فى رشاوى مالية وأراضى وهدايا أثناء عصر مبارك وفوراً تقدم وزير العدل ببلاغ للنائب العام ليحقق فى اتهامات سلطان للقضاه ، ويبدو أن النائب العام – المرشح وزيراً للعدل – لن يهتم حالياً بهذا البلاغ.. من العار على القضاء المصرى الشامخ الذى يصدر الخبرات القضائية للعالم العربى كله أن يرتهن مصيره بمجلس الشورى عديم الصلاحية ليطهره.. إن الرئيس يدرك أن أهم شروط بناء دولة القانون والعدالة "الثقة فى القضاء" والرضا بأحكامه وتنفيذها ، لكن دخول القضاء فى "مستنقع السياسة" سيلوثه ويفقده عدالته "العمياء".. إن "تطهير" القضاء القصد منه هو السيطرة عليه والتباطؤ فى نظر القضايا لأن الهدف هو تقليص عدد القضاه من خلال تخفيض سن تقاعدهم ، فمصر تعانى من نقص شديد فى عدد القضاه.. والسبب الوحيد لتطهير القضاء هو أن تتم الانتخابات القادمة فى ظل عدد محدود من القضاه مع توسع كبير فى الدوائر بحيث يتم ضم دوائر إلى أخرى فيحدث التكدس والتباطؤ والتزوير وتمتد الطوابير أمام اللجان ، والقاضى يفتحها حيناً ويغلقها أحياناً للصلاة أو لتناول الغداء حتى يزهق الناس وينصرفون. لقد أقدم عبد الناصر على ما سمى بمذبحة القضاه فى عام 1969 فى عهد وزير العدل عصام الدين حسونه ، وكان عدد من نقلهم لا يتجاوز 150 قاضياً رفضوا الإنضمام للاتحاد الإشتراكى التنظيم السياسى الوحيد وقتها .. رفض القضاه الاشتغال بالسياسة لأن هذا مبدأ القاضى ، وظلت هذه المذبحة "نقطة سوداء" فى تاريخ عبد الناصر زعيم الأمة العربية صاحب الشعبية الجارفة ، فما بالك بذبح 3500 قاضى أى أكثر من ثلث عدد القضاه الحاليين.؟. المسألة سياسية وتجهيز للانتخابات القادمة ولا علاقة لها بالتطهير ، فالإخوان "يمكرون" ، لكنه "مكر مكشوف" ويستطيع أى مصرى أن يكشفه!! إن تطهير القضاء كلمة حق يراد بها باطل , والباطل دائماً خصم الحق وأحياناً ينتصر عليه.. وهو مايريده الإخوان.. إن مشروع قانون السلطة القضائية إذا ما استبعد ثلث القضاه الحاليين فمعناه تصعيد التنظيم القضائى المعروف باسم "قضاه من أجل مصر" والمشهور بانتمائه للإخوان إلى مناصب هامة.. المشروع أيضاً سيجعل النيابة والمحاكم فى "خصام دائماً" فإذا ما صدر حكم يستند للقانون تسارع النيابة بالإعتراض عليه وتعطيله.. ومن ثم فإن أى خصم للإخوان فى الانتخابات القادمة لن يستطيع الحصول على حكم قضائى يثبت تزوير الجماعة للنتيجة أو عدم فرز الصناديق بالكامل في اي دائره.. الإخوان يريدون قضاء يساهم فى تمكينهم من اجراء التشريعات التى يريدونها ،ويمهدون لمرشحيهم الطريق إلى مجلس النواب.. قضاء يتلقى التعليمات بالتليفون.. قضاء للحاكم وليس للشعب.. قضاء لتنفيذ الرغبات وليس لتحقيق العدالة .. قضاء ينحاز للإخوان قبل أن يحكم.. ويعادى خصومهم قبل أن ينظر أوراق القضية.. يريدونه قضاء للدولة وليس للمواطنين.. "التطهير" هو لفظ أكثر جاذبية من "التمكين" وهو الهدف الذى يريد التيار الدينى تحقيقه.. فلو دان لهم القضاء سيملكون صولجان الحكم بقوانين تفصيل وأحكام مشبوهة.