تكتسب الأزمة الحالية في الجزائر مزايا خاصة عن تلك التي سبقتها قبل الربيع العربي، فلم يعد الأمر يقتصر على المطالب الاجتماعية وحسب، بل تعدى الأمر ليصل إلى مطالب سياسية ظهرت في الاعتصامات الأخيرة التي شاهدتها البلاد، وبدأ المتظاهرون من الشباب في حمل لافتات مكتوب عليها: "حاكموا شكيب خليل ورموز الفساد"، و"لا لدولة الفساد". وقد أثارت تلك الاعتصامات أصداء كبيرة في البلاد، لاسيما بعد انتشارها في عدة مدن جزائرية في الجنوب، مما أدى إلى انتشار حالة من الجدل في أوساط السياسيين والمهتمين، بين من يراها بداية انتفاضة شعبية لإسقاط النظام ومن يحصرها في إطار من الحراك الاجتماعي فقط.
يأتي ذلك بجانب تنامي ظهور الحركات الإسلامية الذي تشهده الجزائر بعد الإعلان مؤخراً عن تأسيس أول حزب سلفي في البلاد باسم حزب "جبهة الصحوة الحرة" مما يعقد المشهد السياسي وبالتالي عدم استبعاد تطور الموقف من مجرد حراك اجتماعي ملبد بمطالب اجتماعية وإنسانية ووصوله إلى ذروة الانتفاضة الشعبية التي من الممكن أن تعصف بأي سيناريوهات للمستقبل، بدليل سابقتها من الثورات في تونس ومصر، فضلاً عن احتمالية تعقد الأمور إلى درجة الأزمة كما يحدث الآن في المحنة السورية.
بوادر ثورة وخلال هذه الاعتصامات الأخيرة طالب المعتصمون وأغلبهم من الشباب العاطل بالحق في السكن والتوظيف خاصة في ولايات الجنوب، وانتقدوا ما وصفوه بسياسات التشغيل والحلول الترقيعية التي تقترحها الحكومة لحل مشكلة البطالة، مشددين على أن الهدف من اعتصاماتهم هو تحقيق الوحدة الوطنية وإعادة منطقة الجنوب إلى حضن الدولة الجزائرية.
كما طالبوا بإرساء قواعد الحكم الرشيد ومحاسبة المسئولين عن قضايا الفساد في البلاد، وإيقاف المتابعة القضائية في حق الناشطين الحقوقيين في الجنوب، الأمر الذي اعتبره بعض المحللين خروجاً عن المطالب الاجتماعية، ومن المتوقع أن يتم رفع سقف المطالبات بإسقاط النظام في حالة التهاون مع تلك المطالب بحلول حازمة.
وفي هذا الإطار، يرى الكثير من المحللين أن الوضع في البلاد بمثابة الفتيل الذي قد يؤجج الاحتجاجات الشعبية لتصل إلى بوادر ثورة تختلف معها التوقعات بخصوص مدى تطورها السريع رغم الهيمنة العسكرية على الأمور في البلاد.
وتعليقاً على الأحداث، حذرت الباحثة "فتيحة زماموش" من تحوّل هذا الحراك الاجتماعي إلى حراك سياسي ينادي بإسقاط النظام، مثلما حدث في النموذج التونسي الذي بدأ بمطالب اجتماعية، ثم ما لبث أن ارتفع سقف المطالب حتى وصل إلى المطالبة بإسقاط النظام.
وقال عضو أمانة الحركة والدبلوماسي السابق محمد العربي زيتوت: "إن الحراك الشعبي الذي بدأ في محافظات الجزائر الجنوبية احتجاجاً على البطالة وانعدام التنمية، آخذ في التصاعد، وينبئ بانتفاضة شعبية لإسقاط حكم "العصابة" في الجزائر".
وفي المقابل اعتقد الكاتب الصحفي "مراد أبوعباس" أن المطالب التي رفعها المحتجون لا تخرج عن كونها "اجتماعية بحتة"، إلا أن بعض التيارات السياسية تريد ركوب الموجة، وتحميلها ما لا تحتمل، لخدمة أجندتها السياسية المتعلقة أساساً بتعديل الدستور والانتخابات الرئاسية المقررة في العام المقبل.
وفي خضم هذه الأزمة الداخلية الجديدة التي يشهدها الجزائر، تعيش البلاد حالة من الأزمات الاقتصادية والأمنية، بالإضافة إلى توتر الأجواء على الحدود بعد تصاعد الأوضاع في مالي وتعرض مجموعة من الأجانب في "عين أميناس" الواقعة في الجنوب الشرقي من البلاد لهجوم من قبل مجهولين الأمر الذي مثل استنفار أمني في هذه المنطقة.
مسارات الأزمة والمتأمل في المشهد يرى أنه مع توالي سلسلة الاحتجاجات الشعبية وتعديها من وتيرة المطالب الاجتماعية إلى المطالبة بتغييرات سياسية جذرية؛ يظل الأمر مرهوناً بمحددات أساسية يمكنها لعب الدور الرئيس في مجريات الأمور في البلاد. فمن جانب المعارضة يتحدد مدى قدرتها على انتهاز الفرصة لفرض التغيير، وأيضاً موقف المؤسسة العسكرية التي تبدو في الظاهر بعيدة عن المعترك السياسي ولكن في الباطن ليست كذلك في ظل هيمنتها على مجريات الأمور في البلاد، كل ذلك بجانب موقف الرئاسة الجزائرية ومدى سرعتها في التعامل مع هذه المطالب في إطار من التنازلات التي قد تحتاجها الظروف الغير معلنة حتى الآن.
فهناك مسار أول للأزمة في البلاد يتبلور حول إمكانية تهدئة الموقف، خاصة وأن المعتصمين أعلنوا موقفهم من تنظيم المسيرات الهادئة، وبالتالي من المستبعد أن تكون هذه الاعتصامات بداية لحراك شعبي لإسقاط النظام، مع ضبابية الرؤية حول مدى اختيار المؤسسة العسكرية الحياد إذ اشتدت حمية الاحتجاجات أم ستقف كالمعتاد لحماية النظام؟ وقد يكون من دعائم ذلك المسار إدراك الشعب الجزائري لمغبة العنف والتوتر الذي قد يعم البلاد نتيجة تأجج تلك المطالب ووصولها إلى ذروتها، خاصة وأن المشهد في بلدان الربيع العربي لا ينذر بالخير في ظل التدهور الاقتصادي والتوتر السياسي والأمني، فضلاً عن أعمال العنف والقتل والدمار الذي وصل إليه المشهد السوري.
ولكن هل يتوقف الأمر عند ذلك المسار؟ في الحقيقة هذا المسار السابق لا يمنع إثارة مسار آخر من شأنه وصول الربيع العربي إلى الجزائر التي عرفت التضحيات والثورات وقدمت مليون شهيد في الثورة ضد الاستعمار، بل على العكس قد يدفع تخاذل الحكومة في التعامل مع تلك الاحتجاجات إلى اشتعالها، خاصة وأن الواقع قد أثبت في الجارة التونسية صاحبة شرارة الربيع العربي أن تهاون الحكومة في مواجهة المطالب أدى إلى تفاقمها إلى حد المطالبة برحيل النظام.
وقد يشجع على ذلك رغبة القوى الإسلامية الصاعدة في تغيير الوضع في البلاد ومواكبة الانتصارات السياسية التي حققها الإسلاميون في العديد من الدول العربية، على خلفية الربيع العربي الذي أخرج الكثير من الوجوه الإسلامية التي فضلت الاختفاء أو التي أجبِرت عليه مرة أخرى أمام الملأ .
وفي ظل هذا المسار الأخير، قد لا تكون الجزائر قريبة من النموذج السوري الذي يُقابل بموقف فرنسي متراخٍ فيما يخص احتمالات التدخل العسكري، بل على العكس من ذلك فقد يعود الاستعمار الفرنسي من جديد في القرن الواحد والعشرين، خاصة بعد التدخل الفرنسي الأخير في مالي.