يفرض الواقع التاريخي والجغرافي لألمانيا في وسط القارة الأوروبية حتمية تاريخية لتبني سياسة أوروبية فاعلة لتحقيق المصالح والمزايا النسبية في إطار نظام أوروبي متكامل في كافة الاتجاهات خاصة الاقتصادية، ولكن كان هذا هو الاتجاه السائد في مرحلة التكوين الأوروبي التي ارتبطت ببدايات الاندماج والوحدة، فكانت ألمانيا من أوائل الدول التي وقّعت أولى مراحل الوحدة الأوروبية منذ أكثر من خمسين عاماً. أما الآن، ومع المعطيات الجديدة للنظام الاقتصادي العالمي، يشهد الواقع الراهن معاناة اليورو الأوروبي من العديد من الأزمات الاقتصادية المتوالية (أخرها أزمة قبرص) مع التوقع باستمرار تلك الأزمات، فضلاً عن التراجع البريطاني الذي يهدد بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي وانشغال بعض قوى أوروبا الفردية بالصراعات السياسية خارج القارة، مما يضع ألمانيا أمام حمل كبير من هموم الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي يطرح التساؤل حول مدى قدرتها على التعامل بقدر تلك المسئولية الهائلة.
هموم الداخل ويرى الخبراء أنه منذ الأزمة المالية العالمية قبل خمس سنوات، تزايدت الضغوط على الدول المدينة بالاتحاد مثل اليونان والبرتغال وأيرلندا، وأصبحت مسألة الإنقاذ سياسية واقتصادية معاً، بينما تلعب ألمانيا دور الشبح المخيف بسبب إصرارها على تنفيذ الدول التي تعاني من الأزمة إجراءات تقشف قاسية كشرط للحصول على المساعدة.
أما الآن وبعد تطورات أزمة قبرص الراهنة مع طلبها الأخير للمساعدة من روسيا عقب رفض خطة الإنقاذ الأوروبية، ينكشف الغطاء عن تساؤلات عميقة حول قدرة أوروبا على حل مشكلاتها بنفسها، وفي هذا الشأن يقول الخبير الاقتصادي الأوروبي "فاسيليس موناستيريوتيس": إن طلب قبرص هذا سيثير عدة قضايا تتعلق بشرعية الاتحاد الأوروبي.
التمرد البريطاني ويثير الموقف البريطاني المتمرد في كثير من الأحيان الغضب الألماني، لما يقوم به من التلميح بشأن إعاقة خطة تعميق اندماج دول منطقة اليورو التي تتبناها ألمانيا ودول أخرى بالاتحاد.
ويمكن وصف الدور البريطاني في منطقة اليورو بالمتقلب وفقاً للمصالح الذاتية، ويأتي ذلك نتيجة محاولتها الموائمة بين الاستفادة بمزايا الاتحاد من جانب، وتجنب مساوئه من جانب آخر، وشجع هذا الدور خروج بريطانيا من الكنف الأوروبي في كثير من الأحيان إلى التحالف الأمريكي والأطلنطي؛ الأمر الذي صعد من الاستنفار الأوروبي لهذا الدور.
وعلى الرغم من تطور الموقف البريطاني إلى حد التهديد بالانسحاب من الاتحاد نتيجة تصاعد الأزمات التي يتعرض لها في الفترة الماضية، فضلاً عن تجنب التعرض لمسئوليات مالية والاكتفاء بتقديم النصائح البرجماتية التي يرفضها الشركاء الأوروبيون، إلا أن الواقع يستبعد إقدام بريطانيا على مثل هذه الخطوة لأن ذلك قد يفقدها ثقلها الأوروبي ويفتح الباب أمام القيادة الألمانية والفرنسية.
قيود ألمانية وبعدما فرضت الظروف المختلفة (من تصاعد للأزمات الاقتصادية وتراجع للدور البريطاني) التدخل الألماني لإنقاذ الاتحاد الأوروبي من الهاوية الاقتصادية، بدأت ألمانيا في وضع قيودها ثمناً لهذا الالتزام المالي أمام التعثر الأوروبي.
وفي هذا الصدد، مثلت ألمانيا حجر عثرة أمام التوصل إلى حل أوروبي، بدليل الموقف الجاري من الأزمة القبرصية، حيث حذرت المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" قبرص من ابتزاز شركاء مجموعة اليورو في الخلاف بشأن برنامج الإنقاذ.
من جانبه، قال وزير المالية الألماني "فولفغانغ شويبله": إنه لا يمكن لقبرص أن تطلب من الترويكا المكونة من الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي أن يظل كل شيء على حاله.
وفي سياق متصل، طالب وزير الخارجية الألماني "غيدو فيسترفيله" قبرص بإيضاح عاجل لموقفها إزاء أزمتها المالية، محذراً إياها من عرقلة جهود الاتحاد الأوروبي في حل الأزمة.
وترى حكومة ميركل أنه من الصعب إقناع دافع الضرائب الألماني بفكرة إنقاذ قبرص من أمواله لأنها تختلف عن اليونان وإيطاليا وإسبانيا، فلا يوجد تعاطف مع الجزيرة التي ينظر إليها على أنها ملاذ آمن للتهرب من الضرائب ولأموال فاسدة لكبار المستثمرين الروس.
وتتجاذب أوروبا في فكر الإصلاح الذي استدعته الأزمات الاقتصادية المتتالية رؤيتين، الأولى تقودها "ألمانيا وفرنسا" وتنادي بزيادة الاندماج، ونقل صلاحيات الدول الفردية إلى الاتحاد ككتلة إقليمية، بينما الرؤية الثانية وتمثلها "بريطانيا"، تذهب إلى عدم تدعيم الاندماج الأوروبي إلا وفقاً لمصالحها البرجماتية، وتفضل العلاقة مع أمريكا في بعض الأحيان على العلاقة مع شركائها الأوروبيين.
ولكن التحدي الكبير الذي فرضته الظروف على ألمانيا نتيجة العجز الأوروبي عن مواجهة الأزمات، يكشف عن وضع خطير قد يتعرض له الاتحاد الأوروبي الذي قطع شوطاً طويلاً في الوحدة الاقتصادية حال الإخفاق الألماني عن قيادة الدفة في المرحلة القادمة.