زمان والقلب أخضر وبريء كنت منضمًا للإخوان في فترة المراهقة في المرحلتين الإعدادية والثانوية؛ ولأني أكملت معهم حضرت معهم "كتيبة" في قرية شباس الشهداء بمركز دسوق لعبنا وصلينا وأكلنا ثم كانت محاضرة مع رجل من مدينة دسوق كان كبيًرا وعجوزًا، وقالوا لنا إنه أحد الذين عاصروا حسن البنا وحارب في 48 ضد عصابات اليهود، وحدثنا الرجل عن ذكريات الجهاد ضد اليهود وبطولات الإخوان وكيف أنهم كانوا آخر الناس انسحابًا بعد انسحاب الجيوش العربية من فلسطين منهزمة وأنهم الوحيدون الذين حققوا انتصارات واستولوا على مستوطنة "رامات رحيل" ... كان ساعتها الدم يضرب في عروقنا ونتشوق للجهاد وتحرير فلسطين من أحفاد القردة والخنازير!! قبل تصحيح سوء الفهم وأنها كانت مجتزأة من سياقها!! .. وبعدها وزعوا علينا مجلات "الجهاد" الأفغانية الصادرة باللغة العربية كانت المجلة مصورة وطباعتها فاخرة وكنت من القلائل الذين كانوا يحتفظون بأعداد منها .. كنت أحفظ أسماء قادة الجهاد الأفغاني وكنت أطرب حين أذكرهم وأذكر بطولاتهم وتنظيماتهم وأصولهم العرقية من بشتون وطاجيك وأوزبك وهزارة ...
كنت أحفظ أسماء المدن الأفغانية .. قندهار .. كابول ... قندوز ... هرات ... بلخ ... كنت أعرف الجغرافيا الأفغانية من وادي بانشير لممر سالانج ... كنت أحفظ كثيرا من قصص كرامات الشهداء وكيف أن الله يحفظ أجسادهم وكنت أشم رائحة المسك تنبعث من أجسادهم وكنت أراهم يبتسمون وهم نائمون وأن الروس كانوا يدخلون في الإسلام بعد رؤيتهم هذه الكرامات؟؟!! كنت أعرف معارك المجاهدين العرب وخاصة موقعة "بغمان" كنت أردد مع المجاهد العربي قوله:
هذي دمائي يا ربا بغمان *** سالت على صدري بلا هوان
حلمت أن أدخل كابول مع المجاهدين على متن دبابة ذلك المشهد المهيب الأسطوري الذي أبهر العالم كما أبهرناه في أمور كثيرة ثم اكتشفنا أننا كنا نعيش الوهم!! وعلى نفس الدبابة حلمت بدخول الأقصى فاتحًا ومحررًا إياه من دنس أحفاد القردة والخنازير!!
زمان وأنا صغير كنت أحلم أن أكون كبيرًا تعب القلب وتحير من العمر ومن المشاوير!!
كلمات تذكرت هذه المشاعر التي كانت تملأ قلب ذاك الفتى المراهق تقتلني الحسرة ويعتصرني الألم فقد عرفنا وقرأنا وسمعنا ورأينا كيف أن تنظيم القاعدة أنشأته المخابرات الأمريكية بمساعدة المخابرات السعودية وكيف أمدته بالسلاح الروسي عن طريق إسرائيل ومصر يعني كانت حربًا بالوكالة عن أمريكا لإسقاط الروس!! ثم كان ما كان وانتهى الحال كما نرى ... وظلت طالبان جند الله في المعركة الخطأ!!
لا رؤية ولا علم ولا فقه شرعي ولا فهم ولا تعليم ومفهوم الدولة نفسه غير موجود ومتوسط عمر الأفغاني لا يتعدى 47 عامًا لا وقت عنده للتعلم ولا للعمل فهو يجاهد ويجاهد ويجاهد!!
وفي سبيل الجهاد يهدم مباني حضارته ويمنع نساءه من التعلم؛ لأنه ضد تعاليم الدين وفتنة تمنعه من الجهاد!! ولا مانع من زراعة الأفيون لتمويل الجهاد بدل زراعة القمح حتى لا يشبع ويركن إلى الدنيا الفانية!!
صديقي العزيز بيريز أتمنى الرغد لدولة إسرائيل !! وهذا الرجل الطيب من أكثر من عشرين عامًا ماذا كان يقول لنا؟!! دارت بي الدنيا وما زلت في دوامتها الهوجاء أتقلب بلا راحة!!
كارتر العجوز في مصر وهذه المرة معهم وحفاوة بالغة وشديدة تعدت حفاوة السادات فقد كان ذئبًا يخالتهم وكانوا يعرفون أن الرجل ربما يكون مخطئًا فيما يفعله ولكنه لم يكن خائنًا ولا منتفعًا منهم بشيء وكانوا متأكدين من وطنيته وأن الرجل لا يبغي شيئًا غير استرداد تراب وطنه .. أما هم فماذا يبغون؟؟ لقد داسو على كل أفكارهم ومعتقداتهم للوصول لهدف لم يكونوا هم أصحاب الفضل فيه .. بل حملهم غيرهم على أكتافهم حتى أوصلوهم لهذا المكان؟؟؟ ما الداعي إذن لهذا الانبطاح ؟؟!! فأمريكا ليست صاحبة فضل عليهم ولا بيريز ساعدهم للوصول لهذا المكان.
سالت دماء شبابنا ودمر اقتصادنا وأوشكنا على الإفلاس الاقتصادي وقبله الإفلاس السياسي والأخلاقي ... أتذكر الشاب الجنتلمان مهندس الجرافيك في الأوبرا المصرية "زياد بكير" -أظن لا أحد يذكره أصلا هو ورفاقه رحمهم الله- الذي سال دمه وتيتم أطفاله طلبًا للحرية والكرامة وهو في غنى عن أن يمسه أحد بسوء وأرى النتيجة التي آلت إليها مصرنا يزداد ارتفاع ضغطي واحتراق أعصابي وأنا أرى من نوعية تعليمه مهندسين وأطباء ومؤهلات عليا يبررون الخطأ ولا يستطيعون التفكير ويعيشون نظرية المؤامرة بل ويضعون الشهيد زياد بكير في خانة الخونة.
اما أنا فسأعيش الحسرة والألم عسى يومًا يتبدل الحال ويولد الأمل
*باحث في دار الإفتاء
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أالقائمين عليه