مشكلتي هي التفكير والنقاش، سبّب لي هذا الداء مشاكل بالجملة مع كل محيطي وفي كل مراحل عمري ... في المرحلة الثانوية كان الإخوان يُعدُّونني لرئاسة أسرة من أسرهم، وكان المسؤول عني الأستاذ/ .... الكاشف رحمه الله وبعد لقاءات كثيرة في إستاد دسوق الرياضي أثناء اليوم الدراسي بعد أن كنت أزوغ تارة او بعد انتهاء اليوم الدراسي تارة أخرى خرج بنتيجة عظيمة، وهي أن هذا الفتى لا يصلح؛ لأنه يفكر ويناقش .. ومرت الأيام ...
وبعد زواجي بأشهر في العام 2000 استدعيت لأمن الدولة أكثر من مرة وأثناء الاحتجاز في شعبة دسوق تناقشت مع أحد الأمناء قبل الدخول للضابط فقال لي: إنك تفكر والذي يفكر يتعب نفسه وستدخل نفسك في مشاكل وسيحتجزك الظابط!!!
دخلت للظابط فقال لي: أنا غير مصدق لورق التحريات التي أمامي؛ لأن شكلك وطريقتك لا يتطابق مع الكلام المكتوب وسأقطع الشك باليقين وسأزور مكتبتك لأطمئن فقلت له: تفضل يا باشا، وفعلا زار مكتبتي واستوقفه كتاب "السلطة والفرد" ل"برتراند راسل" فقلت له: ياباشا هذا كتاب في الفلسفة وهو من إصدار مكتبة الأسرة ... ومرت الأيام ...
كنت أناقشهم كثيرًا فأقابل منهم بتهمة التعالي وأني الوحيد الذي أفهم!! للحق هؤلاء إلى هنا كانوا مهذبين .. عيرهم من الأجلاف كانوا يتهمونني بالدعارة والدياثة والانحلال وكل التهم التي تعرفونها ... وصلت لقناعة وهي أن الحوار مع هذه النوعية تصيب أمثالي بحصوات المخ فقررت التوقف عن محاورتهم حفاظًا على مخي من التليف.
في رمضان الماضي إمام مسجد المصطفى بطريق رمسيس مدينة نصر بعد صلاة التراويح ناقشني فيما يدور فقلت له رأيي فحاول ان يقنعني أنه مش إخوان وأنه يستطيع أن يدخلني معهم وأن أحضر لأسمع وأرى بنفسي!!!
وقال لي: مشكلة أمثالك من الذين يفكرون أنه لا تنظيم يحتويهم!!
في ثوانٍ تجمعت كل هذه الذكريات في عقلي وكأنها حدثت متلاحقة وليس بينها وبين بعضها سنوات تصل لعقود في كل موقف!! قلت سبحان الله!! متهم بالتفكير وأحيانًا أوصف ب"التكفير" كأنهما مترادفان أو متلازمان معي!!
ولكن كل الأطراف من متأسلمة وغير متأسلمة أنت عدوها الأول اللدود التي تتمنى لو تختفي من أمامها ولا تألو جهدًا في أن تصفك بأحط الأوصاف وتدفعك لركن الزاوية بل والخروج من الحلبة، فأمثالنا حاملو جرثومة التفكير خطر عظيم على عروشهم وكروشهم لا فرق بين أصحاب الحلل الغربية أو الثياب التي تصل لنصف الساق .. الاستبداد منطقه واحد!!
يوما قال لي محمد عرابي -ابني- يا بابا أنت ليه أدخلتني الأزهر؟؟ قلت له: لشيئين: الأول: أن تتعلم الدين دراسة من مصدره حتى لا تنبهر وتنجذب لأدعيائه، الثاني: أن تتعلم التفكير وإن فقدته لسبب أو لآخر من أسباب الضعف في الأزهر والتي تضرب بالأمة كلها الآن فسأعلمك أنا إياه ... أعرف أن الصغير لا يدرك هذا الكلام الآن ولكنه سيتذكره يومًا ما وسيدرك مقصد أبيه؛ خاصة وأن الصغير يملك عقلاً رياضيًّا ناقدًا؛ بمعنى أن بذرة التفكير موجودة في جيناته الوراثية، ويومًا ما ستنمو هذه البذرة وتستوي على سوقها وتؤتي أكلها بإذن ربها.
ما يحدوني هو الأمل في جيل آخر غيرنا فأمثالي في متوسط أعمارهم ولهم نصف أعمارهم في هذا البلد -الأعمار بيد الله- هذا النصف مضروب في اثنين؛ النصف الأول لي أعيشه وأستثمر في زراعة الجزء الأول من حياة ابني، فأنا لي عمر كامل في هذا البلد نصفه لي ونصفه لولدي ولن أتركه لمجموعة من سارقي أحلام الشعوب وآمالها سواء تدثروا بلباس العصرية والحداثة أو ضحكوا علينا بالهيئة الدينية ...
وأبقى متهمًا بالتفكير ما حييت...
*باحث في دار الإفتاء المصرية
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أالقائمين عليه