لقد شهدت مصر في عام 2011، انتفاضة شعبية، وأقصد شعبية لأنها بالفعل شارك فيها كل أطياف الشعب المصري، بكافة تياراته، وأفكاره، ومعتقداته، وأيديولوجيته، وطبقاته الاجتماعية، حتى أنها أدهشت العالم، بسلوكها الحضاري، ومطالبها الواضحة المُحددة "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية"، لم يشوبها عنف من قبل المُتظاهرين، بل أنهم واجهوا العنف بالتأكيد على سلمية مظاهراتهم. والآن يأتي التساؤل لماذا أطلقت عليها أسم انتفاضة وليست ثورة؟
لأني إلى الآن لم اقتنع أن ما جرى في 25 يناير وما تلاها هي ثورة بل هي انتفاضة شعبية، حقيقة الأمر أنه تتعدد الاتجاهات التي تُعرف الثورة، فهناك ما يرى أنها خروج عن الوضع الراهن بشكل مُفاجأ وجذري وسواء أكان هذا التغيير للأفضل أو الأسوأ،وهذا الرأي ذهب إليه الكثير وكان من أولهم الفيلسوف الإغريقي أرسطو، لكني لا أومن بهذا الاتجاه في تعريف وتوصيف الثورات، لأننا لو أمنا بهذا التعريف يجعلنا نوصف كل تغيير سلبي باعتبارها ثورة، فأنا أري أن الثورة الشعبية التي تقوم بها الشعوب لأبد أن تكون ضد أوضاع راهنة سيئة للتطلع لأوضاع أفضل، ويكن لهذه الثورة الشعبية نخبة تقودها لتحقيق مطالبها وأهدافها، أو أن لم تكن للثورة نخبة فأن الشعب يختار لها نخبة يُفوضها بتحقيق أهداف الثورة.
أما ثورة بدون نخبة، ثم تتم انتخابات "مٌفترض" حرة ونزهيه ويتم اختيار مُمثلين للشعب "مُفترض" يُمثلون الثورة ويسعون عبر مؤسسات الدولة لتحقيق أهدافها، بالطبع أنا أقول مُفترض لأنه لو كان ذاك المسار تم ما كانت مصر تشتعل الآن، مابين رافض لشرعية الانتخابات ومن أتت بهم، ومابين من كفر بالدولة وصار فوضويًا .فهي بالتأكيد أما أنها كانت مجرد انتفاضة شعبية، أو أنها ثورة فقدت البوصلة.
واعتقادي أن الثورة المصرية ثورة فقدت البوصلة، حينما لم يتم تحديد نخبة سياسية تُمثل الثورة، وتضع برامج وآليات لتحقيق أهدافها، واحتدم الصراع عندما حكم تيار سياسي شديد الاختلاف والتوجه مع التوجهات المُتصورة لمصر الثورة، فلم يثور المصريون لأجل مصر الإسلامية، بل لأجل مصر القوية، المدنية، لاسترجاع دور مصر الإقليمي، لكي ترقى مصر سياسيًا، اقتصاديًا،اجتماعيًا،أمنيًا..
ولم تكن الثورة لعودة الإسلام لمصر، فمصر قلب العروبة والإسلام، فمصر هي مصدر الإسلام الوسطي المُعتدل، ومؤسسة الأزهر الشريف هي منارة التعليم الإسلامي، لكافة الدول العربية والإسلامية، وإن كان شاب المصريين بعض السلوكيات والأخلاقيات غير الحميدة فهذه ليست مردها، ضعف الإسلام، بل سوء السياسات التي أدت لارتفاع معدلات الفقر والبطالة تلك الآفتين القادرين على تدمير منظومة الأخلاق في أي مجتمع.
ومن هنا اتسع الفجوة والبون بين مطالب جماهيرية مازالت قائمة، وبين تصورات وأهداف أخرى لتيار حكم مصر، وفقدت الثورة البوصلة، وضلت الطريق، وإلى أن تعود الثورة لطريقها الصواب، سأظل اعتبرها مجرد انتفاضة شعبية.
أما السؤال الذي يتبادر للذهن:
فهو هل الفوضى التي تحيا فيها مصر الآن هي فوضى خلاقة؟ هل إراقة المزيد من الدماء هو الحل الأنجع لكي تعود الثورة إلى مسارها الصحيح ؟
الفوضى الخلاقة، هي فوضى لكنها في نهاية الأمر ستؤدى إلى تحقيق الأهداف والاستقرار، أنا لا اعتقد أن ما نحن فيه هو فوضى خلاقة، بل فوضى مُدمرة لأنها بلا رؤية أيضا، فكلا فريق يمارس الفوضى بهدف ورؤية مُختلفة، لهذا لن تصل لنتائج واحدة، فكلا يُغني على ليله، لأكن الفوضى الخلاقة هي فوضى من قبل فاعلين بطرق مختلفة لتحقيق رؤية وهدف واحد، لهذا هي في نهاية الأمر تحقق أهدافها وتهدف للاستقرار.
فالفوضى الآن يُمارسها تيارات واتجاهات وفاعلون شتى وكلا بلا تنسيق أو تنظيم وبلا رؤية موحدة أو هدف موحد، لهذا فهي فوضى مُدمرة
• فهناك من كفر بالدولة، ومؤسساتها، والقانون، وصار لا يحترم القانون ولا المؤسسات،وفًقدت الدولة هيبتها في نظره، وصار يرى أن حقه ومطالبه لن يحققها إلا بالفوضى، والمزيد من الصراع،ولوى الذراع، وهذا الفريق للأسف تزايد في الفترة الأخيرة، وما كان ظهور البلاك بلوك، إلا امتداد لهذا الاتجاه
• وهناك الاتجاهات السياسية التي تُمثلها الأحزاب والائتلافات والحركات المُختلفة التي تسعى بطرق سياسية، ولأهدف سياسية مُتعلقة أغلبها بمصالح خاصة بالحكم والسلطات،وتتصارع هذه القوى فيما بينها، مُخالفة بهذه الصراعات مزيد من عدم ثقة واحترام المواطنين بها.
• وهناك جماعة الأخوان وبعض جماعات تيار الإسلام السياسي التي أن مشروع مصر الإسلامية يتعرض لمؤامرات خارجية وداخلية لتدميره، وأن عليهم مجابهة كل هذه المؤامرات بكافة الطرق السلمية منها وغيرها، وللأسف أن النخبة الحاكمة الآن تتشارك مع هذه الجماعات في فكرها فهي لا ترى إلا بفكر المؤامرة وتعمل على حل الأزمات السياسية بشكل أمني تعسفي، لهذا فهي لم تختلف في إدارتها للأزمات عن إدارة مبارك.
وفي خضم كل هذه الاتجاهات تحيا الآن مصر، في فوضى تُهدد أمنها القومي، وسلامها الاجتماعي،والاقتصادي، وأن لم تتدارك النخبة الحاكمة التي يقع على عاتقها الآن المسئولية، بخطورة الاتجاهات الفوضوية التي كفرت بالقانون والدولة، وخطورة عدم احتواء كافة التيارات والأحزاب والحركات والائتلافات السياسية، فأن مصر الدولة تواجه خطر البقاء، بل أنها على محك الدولة الفاشلة غير القابلة للحكم.
حفظ الله مصر ووقها شر الفتن.
الآراء المنشورة في الموقع تعبر عن توجهات وآراء أصحابها فقط ، و لا تعبر بالضرورة عن الموقع أو القائمين عليه