لم تحمل المؤشرات الأولية لنتائج انتخابات الكنيست التاسع عشر في إسرائيل، والتي أُجرِيت أمس الثلاثاء مفاجآت كبرى من حيث تغير التركيبة الأساسية السائدة في الكنيست منذ انتخابات فبراير عام 2009، فكما كان متوقعًا احتفظ بنيامين نتنياهو بمنصبه الحالي وينتظر فقط التكليف الرسمي من الرئيس شيمون بيريز، ليتولى رئاسة الوزراء للمرة الثانية على التوالي والثالثة منذ فاز في انتخابات عام 1996، ولم تستطع قوى الوسط واليسار سوى أن تقلل الفارق مع قوى اليمين السياسي والديني إلى ثلاثة مقاعد فقط. تغيرات جزئية
لكن عدم التغير على المستوى الكلي لم يمنع من حدوث تغيرات على المستوى الجزئي، إن لجانب تراجع بعض الأحزاب وصعود الأخرى، أو لجانب بعض الظواهر التي عرفتها هذه الانتخابات، أو لجانب طبيعة القضايا التي سيطرت على عقل الناخبين.
أول ما يلفت الانتباه هو أن 6ر66% من مجموع عدد الناخبين الذي يصل إلى 6ر5 مليون ناخب قاموا بتسجيل أسمائهم في الكشوف الانتخابية للمشاركة في هذه الانتخابات، وهي النسبة الأعلى منذ انتخابات عام 2003، وبلغت نسبة المشاركة حوالي 5ر55%، وهي كذلك النسبة الأكبر منذ انتخابات عام 1999.
وتُعزي نسبة المشاركة الكبيرة إلى أن هذه الانتخابات المبكرة جاءت على خلفية عدم توافق الأحزاب في الكنيست على الموازنة الجديدة، والتي يجب إقرارها قبل نهاية شهر مارس المقبل، وأنه قد سبقتها احتجاجات اجتماعية منذ عام تطالب بزيادة الإنفاق وخفض الضرائب وتحسين الخدمات الاجتماعية، وزاد من طغيان القضايا الاقتصادية والاجتماعية على هذه الانتخابات صدور التقرير الاقتصادي الحكومي منذ أسبوع، والذي ذكر أن نسبة العجز بلغت 5ر4% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية عام 2012، وهي نسبة تبلغ ضعف ما كان مُتوقعًا؛ وهو ما يعني خفض الإنفاق الحكومي وحتمية زيادة نسبة الضرائب.
وعلى الرغم من أن بنيامين نتنياهو قد عالج أزمة الاحتجاجات المطلبية بزيادة الإنفاق على الفئات والقطاعات المحتجة، وهو ما رفع من عجز الموازنة، إلا أنه ربما، وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الإسرائيلية، تطغى القضايا الاجتماعية والاقتصادية على ما عداها بهذه النسبة المرتفعة؛ فقد نشرت صحيفة هآرتس يوم الجمعة الماضي استطلاعًا للرأي أكد فيه 47% من العينة اعتقادهم بأن هذه القضايا تحتل المرتبة الأولى في قائمة اهتماماتهم، بينما ذكر 10% أن الاهتمام الأول هو إيران.
تراجع التحالف
المفاجأة الثانية التي تحملها النتائج الأولية تتمثل في تراجع كتلة (الليكود إسرائيل بيتنا) التي حاول من خلالها نتنياهو وليبرمان إحباط أي محاولة من التيارات الأخرى لأن تستحوذ على عدد أكبر من مقاعدهما، لكن ما حدث كان هو العكس ، فقد تراجعت عدد مقاعد هذه الكتلة من 42 مقعدًا في الكنيست السابق، إلى 31 أو 32 مقعدًا في هذه الانتخابات.
وذهبت معظم هذه المقاعد إلى حزب "البيت اليهودي"برئاسة رجل الأعمال "نافتالي بينيت" ، ويعد حزب "البيت اليهودي" أكثر تشددًا ويمينية من الليكود، إذ يُوصَف بأنه يميني "قومي"، ويتوقع حصوله على 12 مقعدًا على أقل تقدير، بعد أن كان، ومعه حزب الاتحاد القومي في قائمة واحدة، قد حصلا على 7 مقاعد فقط في الانتخابات السابقة.
ويعد جمهور المستوطنين ذي الاتجاهات اليمينية المتطرفة قوة أساسية لهذا الحزب الذي تمكن من الاستحواذ على مناصب مهمة في إسرائيل في محكمة العدل العليا، ورئاستي جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" ومجلس الأمن القومي، وبعض القيادات في الجيش.
نتنياهو والابتزاز
ويمكن القول إن نتنياهو لم يحقق ما كان يرغب من هذه الانتخابات، بل ربما أضعف مركزه السياسي بعض الشيء، لأنه سوف يحتاج للتحالف مع قوى من خارج معسكر اليمين إن أراد تحقيق أغلبية مستقرة في البرلمان، وإلا فإنه سيبقى عرضة لابتزاز الأحزاب اليمينية الأكثر تشددًا كما كان شأن الكنيست السابق.
أما المفاجأة الحقيقية في هذه الانتخابات، فتتمثل في احتمال حصول حزب يتش عتيد (يُوجَد مستقبل) برئاسة المذيع التلفزيوني السابق، يائير لابيد، على 18 أو 19مقعدًا، ليحل في المرتبة الثانية بعد الليكود، وذلك على الرغم من أنه الحزب الوحيد الذي يشارك للمرة الأولى من بين 32 حزبًا وقائمة شاركوا في هذه الانتخابات؛ فقد استطاع الحزب الحصول على تأييد عريض من الطبقة الوسطى والناخبين العلمانيين، حيث وعد بحل مشكلة قلة وغلاء المساكن، وركز على ضرورة فرض الخدمة العسكرية الإلزامية على اليهود الأصوليين (الحريديم).
وعلى نقيض هذا الحزب الجديد، فإن حزب كاديما الذي حقق في انتخابات عام 2009 تحت رئاسة "تسيبي ليفني" المركز الأول بفارق مقعد واحد عن الليكود بحصوله على 28 مقعدًا، ولكنه لم يشكل الحكومة آنذاك بسبب الفوز الإجمالي لقوى تيار اليمين (65 مقعدًا من 120 مقعدًا)، ربما لن يحصل على أي مقعد في هذه الانتخابات بعد تفككه وتعدد الانشقاقات داخله، حتى من قبل "ليفني" التي شكلت حزب "الحركة".
نهاية اليسار
المفاجأة المكملة لظاهرة سابقة على هذه الانتخابات هي اقتراب نهاية اليسار في إسرائيل بشكل كامل، فلا يُوجد حزب في إسرائيل اليوم يُعلِن أنه يساري سوى "حزب ميرتس". أما حزب العمل الذي مثل تاريخيًا "اليسار الوسطي"، وحقق أسوأ نتيجة في تاريخه منذ عام 1949 في الانتخابات السابقة بحصوله على 13 مقعدًا فقط، قد أعلنت رئيسته الحالية، شيلي يحيموفيتش، تنصل الحزب من صفة اليسار، قائلة: "نحن لسنا يساراً"، وذلك في محاولة لجذب أصوات معسكر الوسط ويمين الوسط.
وتبدو ظاهرة هامشية الحديث عن عملية التسوية السياسية مع الفلسطينيين جديدة على مشهد الانتخابات الإسرائيلية في عام 2013، فمنذ انتخابات عام 1992 كانت العملية السياسية مع الفلسطينيين في مركز كل حملة انتخابية للأحزاب الكبرى في إسرائيل. أما في هذه الانتخابات فلم يطرح حزب الليكود ذاته برنامجًا انتخابيًا رسميًا يخاطب به الجمهور، مكتفيًا بالحملات الانتخابية، ربما تجنبًا للحديث عن مستقبل العلاقة مع الفلسطينيين بشكل رسمي، وتركيز نتنياهو بدلاً من ذلك على الخطابات الانتخابية التي أكد فيها على آرائه السابقة ليس لشكل الدولة الفلسطينية هذه المرة ولكن لما هو أقل، "نوع من الحكم منزوع السلاح"، مع التعهد بمواصلة البناء في مستوطنات الضفة الغربية والقدس الشرقية.
وتشير النتائج الأولية إلى أن كتلة اليمين سوف تحصد 62 أو 63 مقعدًا، بينما سوف تحصل كتلة اليسار والوسط على 57 أو 58 مقعدًا.
ففي معسكر اليمين تتوزع المقاعد كالتالي: كتلة الليكود بيتنا (32 مقعدًا)، والبيت اليهودي (12)، وشاس "حزب المتدينين الشرقيين"، يميني ديني متطرف (10 أو 11)، ويهودت هاتوراه "يهودية التوراة" (5 أو 6)، وحزب عوتسمات إسرائيل "قوة إسرائيل" (2).
وفي معسكر الوسط (أصبح في مجمله وسط أقرب لليمين) واليسار تتوزع المقاعد كالتالي: حزب "يوجد مستقبل" (18 أو 19 مقعدًا)، والعمل (16 أو 17)، وحزب الحركة (8)، وحزب ميرتس ( 5 أو 6)، والأحزاب العربية (11).
ولا يجد نتنياهو أمامه في ظل هذه التركيبة إلا أن يُشكل ائتلافًا يمينيًا ضيقًا في إعادة للحكومة السابقة، وهو ما يعرضه لابتزاز الأحزاب الدينية المتطرفة والصغرى، لكن هذا الخيار ليس مفضلاً بالنسبة له، فهو سوف يعمل على تحقيق ائتلاف يميني تنضم إليه تيارات أكثر اعتدالاً، وخاصة في ظل الضغوط الخارجية لوقف الاستيطان وعودة المفاوضات مع الفلسطينيين، وفي ظل علاقته الفاترة بالرئيس الأمريكي، باراك أوباما، كما أنه سيحتاج هذه الأصوات المعتدلة من أجل حشد مزيد من التأييد الدولي لوقف طموح إيران النووي، والذي يأتي على قمة أولويات حكومته الجديدة، فبحسب نتنياهو نفسه: "الوقت يضيق.. ولابد من سرعة التحرك لأن إيران قد تتمكن مع منتصف هذا العام من إنتاج كمية من اليورانيوم يمكنها من صنع قنبلة نووية واحدة على الأقل".
ولهذا يعتزم نتنياهو اللجوء إلى محاولة إشراك "يمين الوسط" ممثلاً في حزبي "يُوجَد مستقبل" و"الحركة" إلى الائتلاف الحكومي، أملاً في تشكيل تحالف أوسع من سابقه. وبرغم ذلك سوف يواجه نتنياهو في كلا الحالتين ائتلافًا برلمانيًا وحكوميًا، إما يمينيًا صغيرًا ومبتزًا، أو ائتلافًا يمينيًا يشارك فيه تيار الوسط، والذي قد ينفض سريعًا لدى حدوث أزمة كبرى داخليًا أو خارجيًا.
أخيرًا فإن استمرار صعود اليمين الإسرائيلي لن يغير من سياسات إسرائيل الهادفة إلى إغلاق كل أفق ممكن للتسوية السلمية، أو وقف الاستيطان، واستمرار الدعوات إلى "أسرلة" عرب 48 أو تهجيرهم.