"الحياة تحيرنا . تُبهرنا بالبراق من ألوانها، كي نرتاد دروبها فرحاً وغفلة، ثم تفجؤنا في الحنايا الصوادم؟ أم تُراها تحتال علينا، بأن تمنحنا أحياناً ما يحاذي أحلامنا، وقد يفوق، فنسرف في الطمأنينة ونختال بين الخيالات؟..مَنْ يدرى؟ لعل الحياةَ لا تكترثُ بنا أصلاً، فنُلاحقها نحن بصنوف الحِيَل حتى يغمرنا التعلُّقُ بالتمنِّى، والتقلُّبُ فى الترقُّب، والأملُ فى اهتبالِ النوال. عسانا أن ننسى مع مر السنين، أننا في خاتمة التطواف مسلوبون لا محالة". كلمات شفافة رائقة، يبدأ بها الروائي الدكتور يوسف زيدان روايته "محال" الصادرة عن دار الشروق، وهي رواية معاصرة على عكس روايات التراث التي عوّد عليها زيدان قراءه.
تتحدث الرواية عن شاب مصري – سوداني يعمل في الإرشاد السياحي بأسوان ثم تتقلب به الأحوال ويتم القبض عليه على الحدود الباكستانية الأفغانية خلال الحرب الضروس التي شنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية على حركة طالبان الأفغانية لتنتهي الرواية عند هذا الحد. تتبع الرواية مصير بطلها من الأقصر للخليج لأوزبكستان ثم أفغانستان ومعتقل جوانتانامو.
و"محال" جزء من ثلاثية، الرواية الثانية فيها هي "جوانتانامو" تدور كلها في الزنزانة، لتأتي الرواية الأخيرة "نور" وتسرد ما حدث مع الفتاة التي أحبها بطل رواية "محال".
عنوان الرواية كما يقول كاتبها، جاء اختياره للتأكيد على أنه من المستحيل عليك أن تمسك باللحظة، لأنها منفلتة دائماً والبطل في الرواية دائماً ما تنفلت منه اللحظات. أسامة بن لادن
شخصية أسامة بن لادن تظهر لأول مرة في الرواية حين امتدح والد البطل، الثري العربي الذي يعيش في الخرطوم، ويقوم بإطعام المساكين ويتولى والد البطل إحضار الخراف له ليقوم بذبحها، حيث يذبح كل يوم خروفين للفقراء ويوزع عليهم لحومها من باب الصدقات، وقد تبرع للبلاد بإنشاء طريق سريع يصل عطبرةبالخرطوم، طوله ثلاثمائة كيلو متر، ونفذه كله من ماله الخاص، كأنه أوقف كل ما يملك لخير الناس والدعوة لدين الله، وهو متزوج من أربعة كلهن يلقين دروساً في الفقه على النساء في المساجد.
حين زار البطل الثري العربي وجد حراسا كثر مسلحين بمنزله، وقد اعتاد على ذلك، منذ أيام الجهاد في أفغانستان، والتي يؤكد الرجل أنها جاءت لإخراج الكفار الروس من بلاد الإسلام. وقال أبو البطل له إن واحداً من الحراس السابقين الذين جاءوا مع الشيخ أسامة إلى السودان من بلاد الأفغان، انشق عليه مؤخراً وصار شيخاً لجماعة التفت حوله. وقد أفتى لهم بان أسامة بن لادن كافر، ودمه حلال شرعاً، لأنه لم يعد ينفق ماله على اهل الجهاد. ولذلك وجب الحذر والحرص وكثرة الحرس، وهذا الرجل المنشق من ليبيا واسمه محمد الخليفي.
في الرواية تظهر أيضا شخصية الصوفي "الشيخ نقطة" وهو شيخ يتردد عليه البطل في السودان، يحدثه بالإشارات دوماً، ليفهمها البطل المريد وحين ذكر البطل للشيخ أمر زيارته لبن لادن، نظر الشيخ في عينيه وتلا عليه بلسان الكشف: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون" وراح يكرر الآية طيلة المجلس.!
في شهر مارس عام 1994 روى والد البطل أن الشيخ الليبي المختل محمد الخليفي، قام قبل إسبوعين مع مجموعة من أتباعه المسلحين بالبنادق الآلية، بتفجير مسجد في حي "الثورة" بأم درمان، وأطلقوا النار على المصلين ىملين في قتل الشيخ عبدالغفار إمام المسجد، والشيخ السعودي أسامة بن لادن. مات أكثر من عشرين رجلاً كانوا يصلون في المسجد، ثم ذهبوا لبيت بن لادن لقتله فانبرى لهم الحراس وتقاتل الجمعان طيلة ست ساعات، حتى وصل رجال الأمن وقتلوا "الخليفي" ومن معه.
واستطرد أبو البطل قائلاً عن بن لادن: لم يعد يخرج من بيته إلا نادراً، وقد توقف عن ذبح الخراف للفقراء...من يوم وقوع الحادثة تغيرت الأحوال وصار الناس في الخرطوم وأم درمان يعيشون في فزع عظيم. ثم ترحيله من السودان إلى قندهار، بعدما رفضت أمريكا ان تتسلمه لأنه غير مطلوباً لديهم.
نورا
هي حب البطل الكبير، الفتاة السكندرية التي قابلها البطل في أسوان .. كانت كعش أوى إليه طائر مهاجر، ليستريح فيه بعد طول معاناة . لكن الفتاة تتزوج برجل ليبي ثري، وهنا لا يكون أمام البطل إلا العمل بالخليج للهرب من واقعه المؤلم .
مذبحة الدير
الرواية التي تنقسم إلى فصول سبعة، يذكر بها أيضا حدوث مذبحة الدير البحري، بالأقصر، وكيف أن الناس وقتئذ قنطوا وقالوا إن ذلك بمثابة انتهاء عصر السياحة، وهرب الأغلبية وباعوا الأراضي والمنتجعات السياحية.
وعبر هذه الحادثة يتناول أسماء حقيقية مثل الضابط سامي عنان الذي ساهم في القبض على مرتكبي الحادثة، وحسين سالم رجل الأعمال المهيمن، والضابط حبيب العادلي الذي أصبح وزيرا للداخلية، ووطأ لقيام الدولة البوليسية، وظهور ابن الرئيس قادما من بلاد الغرب.
من خلال البطل كذلك يتناول المؤلف قضية النوبة ومشكلة الجنوب والشمال في السودان. أمن الدولة يلغي تصريح البطل للعمل في أسوان، فيسافر إلى بلده السودان وبعدها إلى الخليج.
في بلاد الخليج
سافر البطل إلى الخليج بعد معرفته بزواج "حبيبته"، قابل هناك "فواز" السوري الذي قابله البطل أثناء عمله في دولة الإمارات؛ حيث شرح الوضع السوري، من تفاوت بين حزب الأسد صاحب العدد الأقل، وما يلاقيه السواد الأعظم من السوريين من معاناة في أوطانهم، وكذلك شخصية الليبي الذي لاحق "نورا" حبيبة البطل وتزوجها قسرا، والذي تبيّن فيما بعد أنّه قاتل أجير مُوفد من قبل معمر القذافي للقيام بعمل إجرامي في مصر، ليغتال أحد معارضي القذافي.
ثم تأتي طالبان، وقصة صعودها، وتحوّل وجهة بن لادن إلى هناك، واستغراب البطل من لهاث أمريكا وراءه، رغم أنّه كان بأيديهم من قبل ولم يسعوا خلفه.
تزوج البطل "مهيرة" الصامتة التي لا يعرف ما يدور برأسها، هي بيضاء جميلة ولكنها لا تنجب، وتحكي الرواية عن المساعدات التي يرسلها الثري العربي" خليفة" إلى المسلمين في "طشقند" للأرامل وأسر الشهداء، والإخوان الذين يعلون كلمة الله في تلك البلاد البائسة. واضطرار الشاب إلى السفر إلى الخليج، ومنه إلى أوزبكستان، ثم أفغانستان، حيث اعتقله الجيش الأمريكى وسجنه فى معتقل جوانتانامو.
وقال "فواز" صديق البطل ومن يعمل معه في الشركة، أن الأحوال في بلاد الأوزبك والأفغان تنقسم إلى فريق مع أحمد شاه مسعود حيث اجتمع حوله في شمال أفغانستان الأفغان من ذوي الأصول الطاجكية والأوزبكية، بينما مال الفريق الاخر من الأفغان إلى أسامة بن لادن وجماعة "طالبان" التي يقودها في جنوب ووسط افغانستان "الملا محمد عمر".
تحكي الرواية عن إصرار زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر على تدمير تمثالين هائلين بمنطقة باميان الواقعة تحت سلطته لأنهما يصوران "بوذا" المقدس عند غير المسلمين، والملا عمر لا يستجيب للاستعطاف، ويقول على الملأ: ان أُبعث يوم القيامة محطم أصنام، خير من بعثي تاجر أصنام..
بعد تصفية الشركة التي يعمل بها البطل لموت صاحبها، يذهب للعمل كمصور تليفزيوني في قناة الجزيرة، في باكستانوأفغانستان، قبل رحيله من الخليج قابل صديقة حبيبته "نورا" أمل وأخبرته أن "نورا" حصلت على الطلاق، بعد موت والدها.
الاحتجاز في قندهار
تحكي الرواية بعد ذلك عن الأوضاع في باكستان، وطالبان وقندهار، وعرف البطل ان طالبان تعني "الطلبة" في لغة الأفغان، لأنهم كانوا في الأصل طلاباً للعلوم الشرعية، ثم صاروا قوة تطلب الحكم والسلطان، ثم انقلبوا أيام الروس مقاتلين، ثم أصبحوا اليوم قتلة وفاتكين بالمعارضين.
اشتد القصف وعلم أن الفرق الأفغانية المعادية لطالبان تتزحف لاقتناص الفرصة والاستيلاء على قندهار وما حولها، وهم أقوام يكرهون العرب لأنهم كانوا يساعدون طالبان، ولخطأ في اسمه لم يستطع تجديد طلب الإقامة لمدة ثلاثة أشهر بباكستان، لذلك بقي وحده عند نقطة الحدود الباكستانية، بينما ذهب وفد المراسلين إلى قندهار، وهناك عرف أنه احتجز وان الاستخبارات الباكستانية أخذت جواز سفره، ثم تم بيعه للأمريكان، يقول الراوي العليم: ".. لو كان يعرف أن للحرب أحكاماً، وأن بعض الحرب للبعض ربح".
جاءته سيارة عسكرية أخذته إلى قندهار، وعرف أنه في سجن ملحق بمعسكر بناه الروس أيام الاحتلال، ثم احتله من بعدهم الأمريكيون ووضعوا فوق أسواره أسلاكاً مشوكة، مكهربة ونثروا حوله ثكناتهم الحصينة، كي تنعدم فرص الهروب.
الصفحات التالية من الرواية خصصت لعرض معاناة السجناء، ووحشية السجّانين الذين لا يتورعون عن فعل كل ما يذل السجناء. من تمزيق للمصاحف، والدوس عليها بأحذيتهم، فضلاً عن وسائل المزاح "السافلة" منها ضرب المصلين بالعصي والأحذية وهو يؤدون صلواتهم، والإمعان في سب الأمهات والأخوات بأسمائهن على مسمع من الأسير والمحيطين به، ويتفنون في وصف ما سوف يفعلون فيهن حين يحضرونهن إلى هنا.
حين سأله المحقق البريطاني عن صورته مع ابن لادن القديمة في السودان، ولماذا أنكر أنه يعرفه أجاب البطل: الشخص الذي قابلته في السودان مختلف تماماً عن الشخص الجديد الذي صنعتموه هنا. الذي قابلته مرة يوم التقاط الصورة كان رجلاً يطعم الناس احتساباً، ويشق الطرق لخدمة الناس دون مقابل. وقد رفضتم أيامها استلامه لأنه غير مطلوب عندكم. فلا تسألني عن رجل يحاربكم اليوم علانية، لأنكم أردتم منه ذلك، بل دفعتم به دفعاً ليعاديكم بعدما كان لكم صديقاً.
بعدها أخبره المحقق : يبدو أننا تورطنا فيك، ولابد من إبعادك فوراً عن سجن قندهار.
عرف من كلام المحقق أن الفرج قريب، وأنهم أخطأوا باعتقاله، ويقصد أنهم تورطوا بشرائه من مخابرات باكستان، لكن ما ظنه لم يتحقق، فبعد يومين أخذوه من سجن قندهار مثقلاً بالقيود، إلى كوبا، ليبقى أسيراً في معتقل رهيب يديره الجيش الأمريكي سراً اسمه "جوانتنامو".