يتابع ابني الصغير عن كثب الأحداث السياسية، ينفعل معها، ويكون أحيانا وجهات نظر أندهش لها، ويوم أن خرجت لأدلي بصوتي في الاستفتاء على الدستور، أصر أن يرافقني وقال ماما أريد ان أتلمس اول خطوات الديمقراطية، أريد ان أتعرف عليها خطوة خطوة، لا أريد أن أعرفها بالكلام، بل عن طريق الصندوق، فأن كثيرا ما سمعت في برامج التوك شو، وفي المدرسة أيضا أن أولى خطوات الديمقراطية تأتي من الصندوق!!!
طبعا وافقت على اصطحابه، وكنت فخورة بهذا العمق في الكلام الذي لم أعهده من قبل، ربما لأنني لم اكن لأعطيه فرصة للكلام في غير ما يخص الدراسة، وتمرينات السباحة، ولكنني منذ هذا اليوم قررت ان استمع إليه، فهو قادر بحق على طرح افكار تكون وجهات نظر حقيقية، دون ان يشعر، وفي الطريق .. وجدته يقول لي، "ماما طبعا هاتقولي لأ"؟ أدهشني السؤال المباغت، وأدهشتني طريقة الطرح التي جاءت بصيغة التأكيد القاطعة، رغم أنني لم أتذكر أنني تحدثت امامه عن اتجاهي، أو الأيدلوجية التي أوم بها، سألته: لماذا تجزم أنني سأرفض الدستور، واقول لا في الاستفتاء؟، فأجابني إجابة الحقيقة أنني لم أتوقعها، قال "لأن استطلاعات الرأي في التليفزيون كانت نتائجها 75% لا، و23% نعم، و2% لم يحددوا موقفهم، وأعتقد ان الأغلبية في هذا الاستطلاع ستكون انعكاسا للنتيجة المتوقعة من الاستفتاء" الحقيقة أنني فوجئت بأن لدي طفل صغير.
لم يتجاوز عمره العشر سنوات، ولكنه على درجة مدهشة من الوعي، الطفل حين حلل الأرقام حللها بشكل منطقي، بعيدا عن التوازنات والحسابات، والمصالح، وأعتقد أنه بعيدا عن هذه المفاهيم سيكون تحليل ذو العشر سنوات صحيحا بنسبة تقترب من ال100%، ولكن من الصعب بمكان أن تخلو الحقيقة السياسية في هذه البلد من هذه المفاهيم الثلاث.
على كل، وقفنا في طابور طويل، والواقفين فيه قالوا عليه طابور اللجنة المشؤمة، فهذه اللجنة بالصدفة أرقامها الأبجدية هي الأرقام الأولى في اللغة العربية، ونحن نعلم أن الأرقام الأولى في اللغة لها نصيب كبير من الأسماء، ولهذا الطابور طويل جدا، ربما يبدو ليس له نهايه، قدما الصغير عجزت عن حمله لأكثر من 5 ساعات، بل وربما قدماي أيضا، إلا أننا قد أخذنا ببعض من الشفقة حين وجدت السيدات الواقفات لساعات طويلة طفلا تهوى قدماه، ولم تعد قادرة على حمله، فأعطتني إحداهن مكانا متقدما من لكي تنقذ الولد الذي أعياه من فرط الوقوف الطيل، فقال لي بصوت خفيض مبتسم، الديمقراطية دي صعبة جدا، والوقوف في الطابور أصعب، وحين سألته، تحب ننسحب؟ قال بكل ثقة، لا، أنا هاحتمل، بس هانكمل.
كم يعجبني هذا الإصرار من الصغير، وكم يشعرني اننا ما زلنا نحمل في ضمائر هؤلاء أملا ومستقبلا، ليس أقل روعة منهم...
وصلنا في النهاية، وقمت بالتصويت بلا، وكان صغيري واقفا إلى جانبي،ولمس بنفسه إصرار كل الواقفين على كلمة لا، وتابعنا سويا النتائج، التي خرجت ب 56% نعم، 54% لا، الصغير بدأ يفقد القيمة، ويسألني تساؤلات لم أستطع الرد عليها، مثل هل تكذب علينا استطلاعات الرأي في التليفزيون ام يكذب الصندوق؟، ولو صدقت الصندوق، كيف أكذب الطابور الطويل الذي صمد ساعات طويلة لكي يقول لا؟ ماما، أنا لا أحب الديمقراطية، أنا الآن أشعر أنها كاذبة، ولا أحب الكذب، كيف تكذب علينا الديمقراطية وهي طارق جديد، نفتح له الأبواب، ونكرم ضيافته، لقد وقفت لها الطوابير وهي لم تحترم ذلك، لذلك أنا لا أحترمها، ولن أحترمها..
وعني أنا الأم الصامته أمام تساؤلات طفلها الذي تتفتح عيونه في جناين مصر الملطخة بالدماء، أسأل الرئيس مرسي السؤال الصعب، وأسأل جماعته التي سطت عليه كما سطت على البلد، بماذا أجيب إبني الصغير، ماذا أقول له عن الديمقراطية؟ ، ومهما قلت وشرحت، كيف يصدقني؟ هل أواصل الصمت، فأصبح اما خاوية، أم أجيب، لآصبح أما كاذبة؟ وهل يمكن أن أقول له أن النتائج زورت؟، وكيف أشرح له التزوير الممنهج الذي حدث أمام اعيننا جميعا، هل اطالبه بأن يتابع المرحلة الثانية، والانتخابات البرلمانية ، وبالقي عمليات الديمقراطية الزائفة والمزورة؟
أنتظر رد الرئيس، وأتمنى أن يقرأ كلماتي ويتألم كما تتألم تلك الأم الخاوية التي تخشى أن تزيف الحقائق في ضمير أبنائها.