يبدو للبعض أن المشكلة المصرية تنحصر فى الدستور الذى يتم الإستفتاء عليه سواء فى شرعية الجمعية التأسيسية أو فى بعض المواد مسار الجدل و الخلاف و التى لم يتمكن المواطن العادى من تحديد موقفه بشأنها بتجرد و حيده و لكن تمكنت منه قوى الإستقطاب السياسى و الدينى , ولكن فى حقيقة الأمر فإن الموضوع له أبعاد أخرى تستمد جذورها من إرهاصات قد يكون دور الدستور بها هامشى للغاية و كلها أدت لإنقسام المجتمع المصرى على أساس دينى ما بين الإسلامى المسيحى والإسلامى الإسلامى و الإسلام و المسيحية فى حقيقة الأمر بعيدين كل البعد عن هذا السجال.
إن عدم الإستقرار و إنعدام الرؤية المستقبلية لمصر بنظامها الجديد ذو واجهة الإسلام السياسى, الذى ظل عقود من الزمن محارب ما بين طريد أومعتقل و مهمش سياسيا, و مع إضطراب صانع القرار فى إنتاج قرار يتفق عليه الغالبية العظمى أنه صادر لصالح الوطن و ليس لصالح جماعة أو مجموعة, و مع ممارسات زملاء الكفاح للرئيس و حلفائه السياسيين سواء على المستوى الجماهيرى أو الإعلامى أو المجتمعى أو السياسى كل ذلك يؤدى الى مسارات غير محمودة و لن تكون بأى حال من الأحوال فى صالح الوطن أو المواطن .
و لإستقراء الوضع يجب أن نعلم – و كما أوضح إسلام الكتاتنى العضو السابق بجماعة الإخوان المسلمين و إبن عم رئيس حزب الحرية و العدالة و رئيس مجلس الشعب المنحل – أن الجماعة أتت الى الحكم فى إطار إتفاق مع المجلس العسكرى و إتفاق آخر مع الولاياتالمتحدةالأمريكية و لم يكن ذلك ليتم لولا الضمانات التى قدمتها جماعة الإخوان المسلمين لطرفى اللعبة فى ذلك الوقت , فضلا عن الإنتخابات الرئاسية التى لم تكن لتأتى بممثل للجماعة فى رئاسة الجمهورية إلا إذا كان ولاؤه للجماعة يسمح بضمان سيطرة مكتب الإرشاد على الدولة دون أى محاولة منه للظن بأنه رئيس جمهورية حقيقى للبلاد , و لعل ما ذكره العضو المنشق عن الجماعة و الذى أكد أن سبب إنشقاقه يعود الى يقينه بأن الجماعة لم تكن أمينة مع الثوار أو الثورة و فضلت الإستئثار بالحكم رامية وراءها كل من شاركها فى إنزال مبارك من سدة الحكم و القضاء على نظامه و حزبه الحاكم فإن ذلك كان واضحا للنخبة السياسية فى مصر بل و إن جاز التعبير فإن ما حدث كان بالفعل واضحا لكل المصريين الذين ألقوا بالإتهامات على المجلس العسكرى بأنه باع مصر للإخوان .
و رغم حديث الأستاذ محمد حسنين هيكل عن تخوف المشير محمد طنطاوى من إتهامه بهذا الأمر عندما عرض عليه الأستاذ هيكل أن يعين الدكتور محمد مرسى رئيسا للوزراء إلا أن الأستاذ هيكل و رغم ما يلقاه من إحترام فى الأوساط المصرية و العالمية له حسابات مختلفة وهو رجل لكل العصور و لم يكن ليعلن ذلك إلا لأبعاد لن نعلمها فهو يمتلك قدرات لا يمكن تقديرها نظرا لخبرته و شيبته و حنكته فى مثل هذه المسائل فالدكتور محمد مرسى الذى رفض المشير تعيينه رئيسا للوزراء قام بتعيين المشير ذاته مستشارا له هو و رئيس أركان القوات المسلحة والذى شغل أيضا منصب نائب رئيس المجلس العسكرى الذى تولى إدارة البلاد عقب تنحى مبارك و حتى تسليم البلاد كاملة لجماعة الإخوان المسلمين فلعل رواية المهندس إسلام الكتاتنى أجهضت رواية الأستاذ هيكل أو أن هيكل تم إستخدامه بواسطة المجلس العسكرى للترويج لحياديته و تم إستخدامه مرة أخرى بواسطة الإخوان فى إطار اللقاء الذى تم بينه و بين الدكتور مرسى فى قصر الإتحادية فى خضم الأحداث الجارية و الذى تواكب مع حديثه مع الإعلامية لميس الحديدى.
إن لا يمكن إختزال ما يحدث فى مصر خلال هذه الفترة فى إتفاقيات أبرمت لتسليم السلطة للإخوان أو فيما ورد عن الأستاذ محمد حسنين هيكل فالمجلس العسكرى لم يعد له وجود فى اللعبة السياسية و أمريكا أصبحت أكثر إقتناعا بحكم الإخوان و خاصة بعد الإتفاق الذى تم بين حماس و إسرائيل , و لكن بعد قبول المصريين برئيسا للدولة من جماعة الإخوان المسلمين و الإعتراف بشرعية من أتى بالصندوق لفترة وجيزة حدثت بعض المفارقات التى جعلت من كل طرف من الأطراف الجديدة للعبة لا يأمن للطرف الآخر و يلقى بإتهاماته على الآخر ويحاول الضغط بكل ما أوتى من قوة و عناصر للضغط فى ترجيح كفته سواء لترسيخ الحكم أو لزعزعة هذا الحكم و النيل من شرعيته.
بدأت الأحداث بإنسحاب بعض أعضاء الجمعية التأسيسية و كان الرد بمليونيات إسلامية بدون أية مليونيات للتيارات الأخرى ثم تطور الأمر لمحاولة إقصاء أو إبعاد النائب العام المستشار عبد المجيد محمود عن منصب النائب العام أولا بتعيينه سفيرا لمصر بدولة الفاتيكان و لما لم يخضع لهذا الإبعاد تفجر الأمر بالإعلان الدستورى الذى مس هيبة و خصوصية و جلالة القضاء ثم بدأت محاصرة المحكمة الدستورية العليا بواسطة الإسلاميين لمنعهم من إصدار أية أحكام ضد الرئيس او الجمعية التأسيسية أو مجلس الشورى – رغم تحصين الرئيس لقراراته التى حصنت فى طياتها الجمعية التأسيسية و مجلس الشورى – و على الجانب الآخر بدأت المسيرات و التظاهرات و المليونيات بميدان التحرير المؤيدة و الداعمة لموقف و قرارات الجمعية العمومية لنادى القضاه , ثم تطور الأمر فى بادره كانت الأولى من نوعها بالتوجه الى قصر اتحادية و محاصرته فى ظل تراجع قوات الأمن المركزى الشرطية عن منع المتظاهرين من محاصرته و إنسحاب الشرطة و إعتصام أعداد ضئيلة بمجموعة مخيمات فى الناحية المقابلة للقصر, ثم كانت المفاجأة بتوجه مجموعات من الإسلاميين فى صورة أشبه بمجموعات العمليات الخاصة لإنهاء الإعتصام و التحذير من التظاهر حول مقر عمل رئيس الجمهورية فيما سميت هذه الحادثة بموقعة الإتحادية و التى راح ضحيتها ثمانية من شباب مصر تسارعت أطراف اللعبة على إنسابهم إليها فى محاولة هزلية أشبه بالحانوتى الذى ينافس زميله بالمهنه على مراسم دفن ميت كما خلفت وراءها ثمانيمائة جريح وفقا لتقديرات هيئة الإسعاف المصرية و ألف و خمسمائة وفقا لتقديرات مرشد جماعة الإخوان المسلمين.
و نتيجة لإصرار رئيس الدولة على التمسك بقراراته و عدم الرجوع عنها , فى محاولة منه لكسب الوقت , و مع ما بدى للجميع من إلتباس نتيجة عدم إستفادة الجمعية التأسيسية من الشهرين الإضافيين الذين تم منحمها لها بموجب الإعلان الدستورى و قامت بالإنتهاء من مشروع الدستور فى أقل من يومين و المسارعة فى تقديمه لرئيس الجمهورية و الذى سارع هو أيضا فى تحديد موعد الإستفتاء عليه ليكون يوم 15/12/2012 , و كانت المفارقة الكبرى عندما نجح فى إكتساب الوقت من خلال الدعوة لما أطلق عليه الحوار الوطنى فى أعقاب خطاب هزيل بدد كل الأمال فى الحوار من أساسه و مبدلا لكل الحقائق التى تناولت موقعة الإتحادية و إلقاء التهم على البعض بالسعى و التآمر لقلب نظام الحكم بناء على أقاويل مرسلة جعلت من خطابه غير مقبولا جملة وتفصيلا.
و على الجانب الآخر بدأت أحداث أخرى متفرقة متمثلة فى المؤتمر الصحفى الذى عقده المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين على هامش ما تعرض له المقر الدائم للجماعة بمدينة المقطم من أحداث تخريب و ما ذكره نائب المرشد من مؤامرات للنيل من الرئيس ثم محاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى فى دعوى من جماعة حازمون التابعة للشيح حازم صلاح أبو إسماعيل لتطهير الإعلام مع عمليات إستهداف لبعض الرموز الإعلامية المعارضة إنتهت بإستهداف مقر حزب و جريدة الوفد و التى تواكبت مع المرحلة الأولى من الإستفتاء.
يحاول كل طرف طمس الحقائق و الإستفادة مما يخصه منها و التنصل مما يشينه بها فطرفى الصراع الحالى أصبحوا أكثر تعنتا و خاصة مع النتائج الأولية للإستفتاء و التى إن جاءت لصالح الفصيل الإسلامى إلا أنها لم تنصفه بنسبة كبيرة و التى أيضا أرجعها الفصيل المدنى الى خروقات و مخالفات شابت عمليات التصويت على الدستور و عمليات الفرز , و لكن الأمور ستزداد تعقيدا مع عودة إحكام محاصرة المحكمة الدستورية العليا بالمعادى و خضوع النائب العام لمطالب أعضاء النيابة و التقدم بإستقالته بعد تدخله فى تحقيقات النيابة العامة فى أحداث موقعة الإتحادية و إن كانت رغبة الإعلام و أعضاء النيابة فى إظهار الإستقاله بسبب عدم شرعيته لأنه لم يعين من خلال المجلس الأعلى للقضاء.
كما أن الشارع المصرى تولدت لديه قناعة بأن الشرطة المصرية دفعت فاتورة لم تكن لتتحملها أبان ثورة 25 يناير و أن هناك العديد من الأحداث التى زج فيها بالشرطة كفاعلها رغم إضطلاع طرف آخر بها و إن كانت أصابع الإتهام دائما تشير الى الإخوان المسلمين فإن نتائج أى من تحقيقات موقعة الجمل و أحداث محمد محمود و ماسبيرو و القصر العينى فضلا عن عمليات فتح السجون و إستهداف مراكز و أقسام الشرطة لم تشير الى الفاعل الرئيسى فى كل هذه الأحداث و قد أرجع البعض ذلك الى أنه لا يمكن محاكمة نظام قائم على افعال إرتكبها ومن هنا ينتظر المصريين نتائج تحقيقات موقعة الإتحادية و التى قد تؤدى الى إعادة فتح قضايا قتل المتظاهرين.
إن النظام الحاكم الحالى بمصر سواء كان متمثلا فى شخص رئيس الجمهورية أو فى مكتب الإرشاد أصبح غير مهتم بمسائل التنمية و العدالة الإجتماعية و رفع المعاناة عن كاهل الشعب المصرى بقدر إهتمامه بترسيخ أركانه بالدولة من خلال ما يسمى بخطة التمكين من الدولة والتى تمثلت مظاهرها فى ما أطلق عليه الشعب المصرى بأخونة المناصب فى إشاره لإستبدال القيادات الإدارية و التنفيذية بالدولة بعناصر إخوانية دون الإلتزام بمظاهر التكنوقراطية.
إن إصلاح ما أفسدته النخب السياسية يتطلب عدد من التنازلات من أطراف الصراع الذين يستخدمون الشعب المصرى كدروع بشرية لهم فيما أدى الى إحداث إنقسام واضح مع ضياع الهوية المصرية و تغليب الهوية الدينية و العقائدية نتيجة لعمليات الإستقطاب السياسى و الدينى و التى لن تأتى على مصر إلا بما يهدد الإستقرار الوطنى و الإجتماعى مع ضياع منهج الديمقراطية و ترسيخ مبدأ ديكتاتورية الجماعة.
إن الدستور الذى يتم الإستفتاء عليه و مواده الجدلية و كل ما قيل فى هذا الدستور لا يمكن أن يكون هو جوهر الخلافات المحتدمة بمصر و بالتالى فإن الحل لن يكون إلا فى يد الرئيس الحالى لمصر و عليه أن يعلم أن فرصته أصبحت ضئيله بعد كل ما حدث خلال الثلاثون يوما الماضية و التى إنتقصت من شرعيته بفضل ممارسات جماعة الإخوان المسلمين ضغوطها عليه و على الشعب المصرى الذى يتمنى أن يكون هذا الرئيس رئيسا له وليس مندوبا لجماعة الإخوان المسلمين فى قصر الرئاسة و بالتالى ففرصته و إن كانت قد إهتزت فإنها تسمح بما تبقى له من فرص فى لملمة الشعب المصرى و لن يتأتى ذلك إلا من خلال بعض الإجراءات الأولية التى يجب أن يتخذها ليعيد الثقة الجماهيرية فيه شخصيا وسيكون ذلك من خلال بناء اواصر الثقة مع الشعب بقرارات حاسمة و ثورية كما يتمناها هو والشعب بحل جماعة الإخوان المسلمين ليكون هو الوحيد القادر على إصدار قرارات الدولة ولا تأتى له القرارات من مكتب الإرشاد مع مشروعية هذا الإجراء و عدم مخالفته للقواعد العامة للعمل السياسى لتنظيم مثل جماعة الإخوان المسلمين بعدما أصبح لها حزب سياسى له شعبية وجماهيرية , أما الأمر الثانى أن يختار مستشاريه و مساعديه من التكنوقراط ذوى الخبره على يكونوا إئتلافيين دون النظر الى إنتماءاتهم و ميولهم و عقائدهم فالعمل عمل, و أن يبدأ الرئيس بنفسه و يحترم القضاء و القانون . و من هذا المنطلق يمكن فعلا الدعوة لحوار وطنى بواسطته شخصيا فمصر لا شأن لها بالدعوة لحوار مع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين إنطلاق من مبداء بناء الدولة الشرعية المعتدلة المتوازنة و حتى تخرج مصر من هذه الأزمة أقوى و أكثر تماسكا و أقدر على التنمية و تحقيق ما ثارت من أجله.