ظل الشعب المصرى طيلة ستة عشر يوما ينتظر أى تحرك من الرئيس لرأب التصدعات التى أحدثها الإعلان الدستورى الصادر فى 22 نوفمبر 2012 و الذى تناول منصب النائب العام وتحصين الجمعية التأسيسية و مجلس الشورى و مساواة مصابى الثورة بشهدائها ماديا و إعادة المحاكمات لقتلة الثوار و أخيرا تحصين هذا الإعلان الدستورى , وتخلل هذه الفترة عدة أحداث كلها لم تكن فى صالح الرئيس و لعلنا نكون غير منصفين إذا إفترضنا أنها فى غير صالح رئيس الجمهورية فقط و لكنها بصورة أشمل لم تكن فى صالح جماعة الإخوان المسلمين و أداتها السياسية المتمثلة فى حزب الحرية و العدالة و بصورة أعمق لم تكن فى صالح تيار راهن على عدالته و تقواه و سلميته مستندا على ما واجهه من ظلم و إستبداد خلال العصور السابقة.
جاء إلغاء الإعلان الدستورى فى كنف ليل الثامن و الساعات الأولى من صباح التاسع من ديسمبر و هذا التوقيت الليلى له مضمون و دلالة واضحة فالغرض منه كسب الوقت ووضع التيارات السياسية المعارضة فى موضع ما يسمى بالأمر الواقع و كأن الرئيس قدم ما لم يكن ينوى تقديمه و لكن عليهم أن يقبلوا يديهم وشا و ظهرا و لعلنا لن نبالغ إذا قلنا أن عليهم أن يقبلوا يد الرئيس ذاته لهذه العطيه التى تكرم بمنحها لهذا الشعب , كما أن هذا التوقيت يراد به الدلالة على شرعية من حضروا الحوار الذى دعى ليه رئيس الجمهورية و زيادة وزنهم الجماهيرى لما توصلوا إليه من نتائج لعلهم يظنون أنه لم يكن لأى شخص غيرهم التوصل إليها.
فى مظهر أشبه بالمسلسلات و الأفلام الغير محبوكة سارع بعض ممن ليس لديهم أى وزن بالشارع و تنعدم علاقاتهم الجماهيرية الى مقر رئاسة الجمهورية تلبية لدعوة السيد رئيس الجمهورية للحوار و فى الحقيقة فالشعب المصرى منذ ترامت الى أسماعه أسماء المشاركين فى الحوار أيقن أن نتائج هذا الحوار لن تختلف كثيرا عن خطابات السيد رئيس الجمهورية فهى إما لا تمثل الواقع أو متأخرة أو تلقى بالإتهامات و التخوينات بغرض إحداث أى نوع من الإنقسام فى صفوف المعارضين للإعلان الدستورى .
دعونا نوضح أن كلمة المعارضين فى غالبية الأحوال تطلق على معارضين لا وزن لهم بالشارع و لكن فى حقيقة الأمر يجب أن نوضح أن الموازين المصرية مختلفة بطبيعة حالها عن أى دولة أخرى و أظن أن الديمقراطية المصرية ستكون ذات مزاق مختلف عنها فى أى دولة أخرى فالديمقراطية المصرية فى حقيقة الأمر أتاحت لأى شخص أن يعبر عن رأيه و لو حتى بالعنف و هذا فى حقيقة الأمر جديد على التجارب الديمقراطية على مستوى العالم , و قد نتجت هذه الديمقراطية العنيفة المستحدثة عن أسباب عديدة أولها التحول الحاد فى إتجاه الناخبين من العدم الى ما هو أكثر من النصف بقدر قليل و هو ما حصل عليه التيار الإسلامى فى الممارسات الإنتخابية التى شهدتها البلاد بعد ثورة 25 يناير, و إستقواء التيارات الإسلامية ببعضها فى مواجهة أى تيار آخر , و إستقواء التيارات الإسلامية السياسية و الغير سياسية المؤيدة بقدرتها على الحشد لمواجهة أى معارضة بإظهار الحشود المؤيدة و كأنها أضعاف المعارضة, و أخيرا عدم إمكان التيار الإسلامى التصور بأن قادته قد يخطئون أو قد تشوب قراراتهم أية شائبه فهم على صواب دائما و بالتالى فهم غير مستعدون للتخلى عن ما وصلوا اليه و هذا فى حقيقة الأمر يرجع لسنوات الحرمان و القهر التى واجهها الإسلام السياسى فى مصر.
من الواضح أن التيار الليبرالى الذى أصبح فى موضع المعارضة أيقن تماما أن السكوت والتماشى مع هذا النوع الجديد من الديمقراطية العنيفه التى تفرض عليه سواء بالتلويح أو التهديد أو حتى بالتعدى على المتظاهرين أو بإلقاء التهم على رموزه ستؤدى فى النهاية الى ديكتاتورية تتخذ من الإسلام ستار لها و هذا بطبيعة الأحوال سينحنى بالدولة الى سنوات من الظلم و التهميش لكل من لا ينتمى لفصيل الإسلام السياسى , كما أن رئيس الدولة المنتخب ومن حوله من فصيل الإسلام السياسى سارعوا فى إجراءات الهيمنة على الدولة خلال فترة وجيزة , قد تكون فشلت الأنظمة السابقة فى فرض تلك الهيمنة خلال سنوات حكمها, و كان ذلك فى إطار إجراءات الإخوان فى تنفيذ ما يسمى بخطة التمكين و التى تتمثل فى تشويه الإعلام بشتى الطرق و إخراجه تماما من المشهد - السيطرة على المجتمع عن طريق الدين و إقناعه بأن الجماعه تمثل صحيح الدين الإسلامي و تكفير المخالفين و اغتيال معارضيهم معنويا - العمل على إيجاد بيئه دستوريه و قانونيه للعمل من خلالها.
إن إلغاء الإعلان الدستورى جاء فعلا بعد فوات الأوان فالرئيس حاول كسب الوقت على قدر المستطاع و لكنه لم ييقن أن ما كسبه من وقت ضاع و إستهلك جماهيريا بفعل ما إقترفه مؤيدوه يوم الأربعاء الموافق 5 ديسمبر 2012 فيما سميت بموقعة الإتحادية و ضاع أيضا بخطابه الذى فرغ محتواه من أى مضمون إيجابى و إمتلاء بالإتهامات و التخوينات و الإفتراءات الى الحد الذى وصف فيه هذا الخطاب بأنه خطاب رئيس دولة هونولولو عن الأحداث فى مصر , و لم يكن لهذا الخطاب أى مردود إيجابى فى صفوف المعارضين و لكنه زاد من معارضتهم وتأججت المعارضة بفعل ما ورد عن لسان مرشد جماعة الإخوان المسلمين خلال المؤتمر الصحفى الذى عقد على خلفية ما تعرض له مقر جماعة الإخوان المسلمين بالمقطم و ما ورد عن لسان نائب المرشد و ما ورد عن لسان أمين حزب الحرية و العدالة بالقاهرة الدكتور محمد البلتاجى فضلا عن عملية الحشد التى تمت بميدان رابعة العدوية عشية الدخول الثانى للمعارضين حول الإتحادية فى وجود جحافل الحرس الجمهورى و الأمن المركزى و الحشد عند مسجد الرحمن الرحيم فى إشاره الى إمكانية إعادة سيناريو أحداث موقعة الإتحادية فضلا عن عمليات الحشد التى يمارسها الشيخ حازم أبو إسماعيل أمام مدينة الإنتاج الإعلامى لما له من مصلحة بالدستور المقترح الذى يعطيه ما سلب منه لحصول والدته على الجنسية الأمريكية.
لن يشفى المعارضيين هذا الإلغاء الصورى للإعلان الدستورى و الذى لم يعيد لقضاة مصر كيانهم و كرامتهم و إستقلالهم فمنصب النائب العام تم تسييسه و مجلس الشورى تحصن من أية أحكام تصدر بشأنه و الجمعية التأسيسية أصبحت منحله بعد تقدمها بالدستور للسيد رئيس الجمهورية و بالتالى فما تم إلغاؤه فعليا هو إعادة المحاكمات لقتلة الثوار و مساواة مصابى الثورة بشهدائها و تحصين قرارات الرئيس , فهل هذا معقول مع شعب صغيره الذى لم يتعدى الخامسة عشر أصبح منخرطا فى السياسة . إن السيد رئيس الجمهورية تعامل مع الوضع الراهن كما لو كان يتعامل مع أغبياء مؤكدا مكيافيلية الجماعة فى التعامل مع المواقف الحرجة.
على السيد رئيس الجمهورية أن يعلم أنه بعد أحداث موقعة الإتحادية و خطابه الأخير و ما ورد عن لسان مرشد جماعة الإخوان المسلمين و نائبه لم يعد الموضوع مقصورا على الإعلان الدستورى – الذى لم يلغى أثره – و لكن إمتد الخلاف لما هو أكبر من ذلك فالجماعة مارست ما هو مخالف للقانون من عمليات قبض و إستجواب و تعذيب و قتل للمعارضين و لن يقبل الشارع و لن يغفر الشعب للرئيس أو جماعته ما إقترفوه فى حق معارضيهم و لعل أبرز المطالب التى يمكن أن تعيد إضفاء الشرعية على الرئيس أن يصدر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين لما إقترفته من أخطاء أدت بشرعيته كرئيس لمصر وشعب مصر كله دون تمييز بين إسلامى و إسلامى أو إسلامى و مسيحى أو لعلنا نكون أكثر وضوحا إذا قلنا بين مصرى ومصرى , و تشكيل لجنة تقصى حقائق تشارك فيها رموز من المعارضين لتحديد مرتكبى جرائم موقعة الإتحادية, و إلغاء الإستفتاء لحين التوافق على مواد الدستور كاملة و دعوة المنسحبين للتوافق و ليس للتحاور أو فرض أمر واقع ,إعلان نتائج التحقيقات فى حادث الإعتداء على الجنود المصريين فى سيناء , و أخيرا أن يخرج الرئيس على الشعب المصرى بكلمة لجمع الشمل و معالجة ما حدث من إنقسام و أن يعيد تشكيل محور مساعديه و مستشاريه ليكونوا بشكل إئتلافى و ليس إلتفافى لتكون قراراته و إعلاناته حيادية و لصالح مصر و ليست لصالح جماعة أو حزب و ليلتفت لمطالب الشعب من عيش و حرية و عدالة إجتماعية.
أما لو لم يقتنص الرئيس ما تبقى له من فرص فأظن أن المشاهد السياسية لن تكون فى صالحه و سينفذ ما تبقى له من رصيد فى شرعيته كرئيس للجمهورية و لن ينفعه أى تصرف بعد فوات الأوان حتى لو أعاد حلف اليمين الدستورى.