إنني مقتنع بأن الإنسان لن يتخلى أبداً عن العذاب الحقيقي، أي عن التخريب والفوضى. فالعذاب هو العلة الوحيدة للوجدان". كلمات للأديب الروسي الراحل فيودور دوستويفسكي التي تمر اليوم 11 نوفمبر ذكرى ميلاده، عام 1821.
ودوستويفسكي عرف بتوجهه الإنساني وبنزعته الفلسفية التي بدت واضحة في أعماله الأدبية ، ويعد الراحل واحد من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العالميين، وأعماله كان لها أثر عميق ودائم على أدب القرن العشرين.
شخصياته دائماً في أقصى حالات اليأس وعلى حافة الهاوية، ورواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في ذلك الوقت.
تمتع الكاتب الروسي فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي بشهرة عالمية واسعة. وقد ترجمت أعماله إلى عديد من اللغات وأصبحت افكارها وشخصياتها جزءا من تراث البشرية الروحي. ان اثمن ما في توراثه هو رواياته. وقد اشتهرت في العالم بصفة خاصة روايتا "الجريمة والعقاب" و"الاخوة كارامازوف" اللتان عبرتا باكمل صورة عن فلسفة الكاتب. بيد ان رواياته الأخرى "مذلون ومهانون" و"الابله" و"الشياطين" و"المراهق" على جانب كبير من الاهمية والطرافة.
ولد دوستويفسكي بموسكو في أسرة طبيب عسكري ينحدر من فئة رجال الدين منح لقاء استقامته في الخدمة لقب نبيل. وكانت أمه تنتمي إلى فئة التجار. وكان أبوه رجلا صعب الطباع وعلاوة على ذلك كان مريضا بالصرع الذي انتقل بالوراثة إلى ابنه. أما أمه فربت فيه المشاعر الدينية العميقة. ومنذ صباه أحب روايات ديكنز الذي كان يجيد إثارة العطف على الناس المهانين.
كان دوستويفسكي مصاب بالصرع، وأول نوبه أصابته عندما كان عمره 9 سنوات. نوبات الصرع كانت تصيبه على فترات متفرقة في حياته، ويعتقد أن خبرات دوستويفسكي أدت إلى تشكيل الأسس في وصفه لصرع الأمير " مايشكين " في روايته " الأبله"، بالإضافه إلى آخرون.
فارق دوستويفسكي الحياة عام 1881, "الإخوة كارامازوف"، وهي الرواية التي عرّبها الكاتب المصري محمود دياب ومثلت في فيلم مصري باسم "الأخوة الأعداء" وتعتبر هذه الرّواية من قبل الكثير قمّة عطاءات الكاتب، وهي الرّواية الأخيرة له حيث فارق الحياة بعدها.
"الجريمة والعقاب"، "المساكين"، "الشياطين"، "الأبله"، "ذكريات من منزل الأموات"، "في قبوى"، "الليالى البيضاء"، "المقامر"، "حلم العم"، "الزوج الأبدى"، "التمساح"، "المثل"، "قلب ضعيف"، وغيرها.
لعل السر في نجاح دستويفسكي وخلود اسمه بين أعلام الأدب العالمي، يرجع إلي أنه كان يحرص في قصصه علي أن يصور الحياة كما كان يراها، ويلمسها ويخبرها، ولعل السر في نجاحه في الجريمة والعقاب بالذات إلي أنه عاش خلال عمره الكثير من وقائعها.
كان يلجأ إلي الحانات والمشارب ليستمع إلي المعذبين الذين كانوا يفضفضون عن صدورهم هناك، كان يلجأ إلي هناك لينصت إلي أحاديثهم.. ولم يكن لخجله يجرؤ علي مجاذبتهم أطراف الحديث، ولكنه كان يستدرج الناس إلي لعب البلياردو... اللعبة التي تمكنه من أن ينكس رأسه فيخفي وجهه بينما يرهف أذنيه.. وهكذا كان يخسر مالا، ولكن يكتسب حكمة.
عاش دوستويفسكي في العزلة والانطواء، حين كان يطلب العلم في الجامعة، فلم يكن يؤنسه سوي الأحلام ورؤي الخيال، وعاش في الهواجس والوساوس التي كانت تؤرقه الليالي، فاتجه به هذا إلي التحليل النفسي في علاج أبطال قصته هذه وبقية قصصه لأنه جرب آثار العوامل النفسية علي المرء. وعاش في السجن وفي سيبريا حين اعتقل مع جماعة من التقدميين الناقمين علي الأوضاع التي كانت تسود روسيا إذ ذاك.
وأقبل الشباب بجنسيه علي فيودور دوستويفسكي يرون فيه أستاذا للجيل، ويناقشونه في المصير الاجتماعي للإنسان.. وكانوا إذا حدثوه عن أحلامهم في خلع القيصر وإقامة الجمهورية، تذكر كيف نفي في شبابه ليعيش بين القتلة والمجرمين في سيبريا، فيهز رأسه في أسي ويقول: "اهدأوا يا أبنائي.. لسنا بحاجة إلي العنف لكي نبعث الدنيا ونخلقها خلقا جديدا ... إنما نحن بحاجة إلي عمل جليل.. إلي ثورة عظيمة .. تنبعث من أعماقنا".
فيعارضه الشبان صائحين في غيظ: "وكيف نلهم الناس جميعا بأن يقوموا بهذا العمل الجليل .. وبهذه الثورة العظيمة التي تنبعث من أعماقهم كما تقول؟".
وكان رده عليهم "ولم تطالبون الناس جميعا بذلك .... ألا تستطيعون أن تتصوروا ما قد يصل إليه رجل مستقيم واحد من قوة وسلطان؟، ليظهر رجل مستقيم واحد، وأنتم ترون كل الناس يتبعونه".
وعند احتضاره كان يقول "يا أبنائي .. لا ينبغي أن نتوق إلي حياة أبدية مقبلة .. فإننا إذا لم نصل إلي الأبدية في دنيانا هذه، فلن نصل إليها قط، إن الأبدية معنا الآن .. هناك لحظات نصل فيها إلي أسمي وجود، فإذا الزمن يقف عن سيره، وإذا حياة الجنس البشري كله تذوب في حياتك .. هذه هي لحظات الأبدية".