على أجنحة الربيع العربي حل المفكر الأمريكي وعالم اللغويات الشهير نعوم تشومسكى على قطاع غزة فى زيارة جمعت بين اهتماماته اللغوية وأحلامه الثورية كمثقف عضوي بالدرجة الأولى ورجل لايفصل بين الكلمة والفعل حتى استحق عن جدارة لقب :"الرجل الذى قال لا لكل مايتعارض مع الحق والخير والجمال". ومن المقرر أن يغادر نعوم تشومسكى قطاع غزة اليوم الإثنين بعد أن زار فى سياق زيارته للقطاع مخيمات للاجئين ومؤسسات فلسطينية، والتقى شخصيات حقوقية ونشطاء سياسيين غير أن هذه الزيارة متصلة فى الواقع باهتمامه غير العادى بالربيع العربى والثورات الشعبية وإمكانية أن تغير هذه الثورات العالم ككل على نحو أكثر إنسانية وعدالة. وكمثقف صاحب رؤية اصيلة واهتمامات متعددة- تناول نعوم تشومسكى فى كتابه الجديد "صنع المستقبل" السياسات الأمريكية فى العقد الأخير بمنطقة الشرق الأوسط وألقى أضواء كاشفة على جذور قرار الغزو الأمريكى للعراق، معتبرا أن الغزو "مثال يجسد معنى الإمبريالية الأمريكية والجوهر الشرير والإجرامى للنظام فى واشنطن". ويؤكد تشومسكى فى هذا الكتاب على أن مايسمى " بنزاع الشرق الأوسط هو صناعة أمريكية-إسرائيلية خالصة وصرفة" وأن كل المشاكل فى هذه المنطقة يمكن حلها إذا غيرت الولاياتالمتحدة سياساتها. ونعوم تشومسكى كعالم لغويات له نظريات بالغة الأهمية فى هذا المجال الخصب وهو صاحب نظرية "القواعد اللغوية الكونية" فيما كانت مجلة "ذى نيويوركر" قد خصته بملف تناولت فيه هذه النظرية وخصومها الجدد الذين يتزعمهم عالم اللغويات الأمريكى دان ايفريت وكان للمفارقة من اخلص تلاميذه فى الماضى. ومع ذلك يقر التلميذ السابق والبروفيسور الحالى دان إيفريت بأن "اغلب المنتمين لمجال اللغويات والألسن لايرون قائدا يوثق به لقيادة السفينة وسط هذا المحيط العميق والخطر والمتلاطم الأمواج غير نعوم تشومسكى"، فيما كانت "اللغات وقضاياها وهمومها " هى السبب المباشر لزيارته لقطاع غزة. وفى سياق مؤتمر دولى حول اللغات بالجامعة الاسلامية فى غزة المعذبة بالحصار الاسرائيلى- قال عالم اللغويات الكبير نعوم تشومسكى: إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فى آواخر عام 2008 قلبت الموازين وأسهمت بصورة كبيرة فى تغيير نظرة العالم لما يجري على الأرض، لتعزز مفاهيم التضامن والدعم للشعب الفلسطينى. ومنذ مساء الخميس الماضى- بدأ نعوم تشومسكى زيارته لقطاع غزة ضمن وفد أكاديمي دولي يضم باحثين من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا. ووصف جمال الخضيرى رئيس مجلس أمناء الجامعة الإسلامية "بالشخصية المعروفة عالميا والمفكر الداعم للشعب الفلسطينى". وكان تشومسكى قد سعى مرارا من قبل لزيارة قطاع غزة غير أن إسرائيل حالت دون وصوله القطاع فيما وصف المفكر الكبير زيارته أخيرا لغزة "بالصعبة وأن كان فى النهاية قد تمكن من الوصول"، مؤكدا ضرورة إنهاء الحصار الإسرائيلى على قطاع غزة "وأن يعيش الشعب الفلسطينى بسلام وحرية". وأعرب عن شعوره بالاستياء لقيام البحرية الإسرائيلية أمس الأول "السبت" باعتراض السفينة "ايستيل" التى كانت تقل نشطاء مؤيدين للشعب الفلسطينى، مضيفا أن هذه السفينة "رسالة مفادها أن العالم بدأ يتغير فى اتجاه دعم أكبر للقضية الفلسطينية". وفيما شارك فى وقفة تضامنية نظمتها شبكة للمنظمات الأهلية الفلسطينية فى مرفأ الصيادين بميناء غزة- كان نعوم تشومسكى قد انتقد الانقسامات الفلسطينية، منوها فى الوقت ذاته بأن التضامن الدولى مع القضية الفلسطينية يتزايد حتى على مستوى المجتمع الأمريكي. ويرى تشومسكى أن الثورات العربية جاءت صدمة للقوى الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية فيما كان قد اعتبر أنه لاوجه للتشابه بين أحداث أوروبا الشرقية منذ عام 1989 وسقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الشيوعية وبين الثورات العربية. وأوضح نعوم تشومسكى أن الغرب كان يدعم المحتجين فى أوروبا الشرقية لكن قوى الغرب لم تساند المتظاهرين فى الربيع العربى "حيث ظهر مستوى من الشجاعة والإصرار يجعلنا نجد صعوبة فى العثور على حالة مشابهة". وأشار إلى أن أحد أسباب كراهية الشارع العربى للولايات المتحدة يتمثل فى "رفض أمريكا، ومعها إسرائيل لتطلعات الشعوب العربية للديمقراطية والاستهانة بهذه التطلعات"، مشددا على أن "الغرب يخشى من قيام ديمقراطية فى المنطقة لأنها يمكن أن تجلب الاستقلال الحقيقى لها". ولأنه "مثقف عضوى وصاحب رؤية شاملة وضمير حى" فقد كان من الطبيعى أن يقف نعوم تشومسكى مؤازرا ومساندا للاحتجاجات التى شهدتها الولاياتالمتحدة ضد تغول الرأسمالية المتوحشة والتى عرفت بحركة "احتلوا وول ستريت" فى اشارة للشارع الشهير فى نيويورك الذى تتمركز به رموز هذه الرأسمالية سواء كانت البورصة أو مؤسسات مالية ومصرفية عملاقة أسهمت بجشع القائمين عليها فى صنع الأزمة المالية العالمية الأخيرة. وكان لافتا أن ينزل نعوم تشومسكى الشارع ليتحاور مع المحتجين فى حركة "احتلوا وول ستريت" وهى حركة لم تكن فى الواقع بعيدة عن الأفكار والشعارات النبيلة للربيع العربى وفى القلب منه الثورة الشعبية المصرية حيث تحتفظ ذاكرة ميدان التحرير فى قلب القاهرة بالهتاف النبيل :"عيش. حرية. عدالة اجتماعية". ولايتردد البروفيسور تشومسكى فى تأكيده على أهمية انتقال شعارات حركة "احتلوا وول ستريت" إلى "قلوب وعقول اكبر كتلة ممكنة من جماهير الشعب الأمريكى" التى أضيرت جراء جشع سدنة الرأسمالية المتوحشة وانفلاتها من المعايير الأخلاقية الواجبة للرأسمالية ذاتها. وفى طرح حول هذه الحركة الشعبية المناهضة للرأسمالية المتوحشة كان له أصداء قوية كالعادة فى الصحافة الثقافية الأمريكيةوالغربية على وجه العموم، قال نعوم تشومسكى إن "تحالف رجال المال والساسة يهدد الحريات المدنية والديمقراطية ككل" بالمعنى المتعارف عليه فى الغرب. وندد تشومسكى بالأسلوب المجافى للنزاهة من جانب بعض وسائل الاعلام الأمريكية الكبرى فى تغطية احتجاجات وول ستريت متوقفا مليا عند مسألة سيطرة رأس المال على الإعلام فى مجتمع "شهد فى العقود الثلاثة الأخيرة تمركزا غير عادى للثروة لدى شريحة لاتتجاوز نسبتها الواحد فى المائة من الأمريكيين". والطريف أن تشومسكى لايرى أن الفارق بين سياسات إدارة الرئيس باراك اوباما وسياسات سلفه الجمهورى جورج بوش يختلف كثيرا عن "الفارق بين القبضة الحريرية والقبضة الحديدية" معيدا للأذهان فى كتابه الجديد "صنع المستقبل" إن أوباما لم يعارض قرار بوش بغزو العراق إلا من منظور التكلفة والخسائر الأمريكية بعيدا عن أى منطلقات أخلاقية أو مواقف مبدئية ضد الحرب واحتلال أراضى شعوب أخرى. وفيما لايتردد فى توجيه أعنف الانتقادات لأوباما ومنافسه ميت رومنى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها فى السادس من شهر نوفمبر المقبل- يبدو أن نعوم تشومسكى لن يتخلى عن حلمه النبيل فى عالم أكثر إنسانية وعدالة والمؤكد أنه ينظر للربيع العربى بثوراته الشعبية وصولا لحركة "احتلوا وول ستريت" كبذرة أمل تبشر بالعالم الذى يحلم به وما أجمله من عالم.