"بفاتحة الكتاب يا ربي بفضلها/ بسورة البقرة بآل عمران / بمن خصصتها بالفضل عن النساء/ مع ابنها روح القدس من كان/ أنزل عليه رب السماوات مائدة/ وقد خُص بالأنعام والغفران/ بأعراف عرفنا وبالخير زدنا/ في الأنفال فاحفظنا من الطغيان/ وتب علينا توبة لا تردها/ ونجنا من كل طاغ كان" هكذا كان يبدأ الشاعر الرائع جابر أبو حسين إنشاده في السيرة الهلالية، حيث يستهلها بمدح النبي والإنشاد الديني، الذي يعتبر فن له تقدير خاص عند المسلمين والمسيحيين في مصر. بدأت شهرة أبو حسين من خلال برنامج إذاعي شهير كان يقدمه من الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الأب الشرعي للسيرة في العصر الحديث، وكان الأبنودي ينهي كلامه في كل قصة بمقولة أصبحت مشهورة هي " قول ياعم جابر". وعم جابر أبو حسين من مواليد 3 نوفمبر 1913 في قرية "آبار الوقف" بمركز أخميم محافظة سوهاج، وكان يحفظ السيرة الهلالية كاملة عن ظهر قلب، وصفه الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي بأنه كان رفيعا مثل العصا، ومسنا، وحاد المزاج، وهو أشهر شاعر للسيرة الهلالية في العالم العربي، كان يحفظ نحو مليون بيت شعر من القصيدة. وقد سجل الباحث الأمريكي جون رينولدز، من جامعة برنستون، عدة مئات من الساعات من أداء جابر أبو حسين للسيرة.
يعتمد الشاعر في تقديمه للملحمة على المربع، فبعد أن تبدأ المقدمة بقصائد مدح الرسول والزهد في الدنيا وطلب المغفرة من الله، يبدأ القص في السيرة ذاتها بالمربع، وهو بيتان من الشعر يتكونان من أربع شطور مستقلة ومتصلة في ذات الوقت، تتشابه قافيتا الشطر الأول والثالث من جانب، والثاني والرابع من جانب آخر.
"دائماً ما كنت أردد أن جابر أبو حسين معجزة تشابه نهر النيل" هكذا يقول الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي ل"محيط" عن جابر أبو حسين، فكيف لهذا الرجل شبه الكفيف شبه الأمي أن يحفظ السيرة الهلالية، التي كان يستطيع أن يرويها في مئة ليلة وأكثر، من غروب الشمس حتى تباشير الفجر.
كان لديه ذاكرة متقدة وحصافة وخبرة "علمية" بجمهوره، الذي يتكون من قطاعات مختلفة من الأميين وأشباه المتعلمين والمتعلمين والمثقفين، ويذكر الأبنودي أنه حين كان يأتي أبو حسين إلى مدينة قنا لينشد فإنه من منطقة الصهاريج حتى مسجد سيدي عبد الرحيم – وهي مسافة تزيد عن كيلو متر ونصف – لا يستطيع الإنسان أن يجد له بضعة سنتيمترات ليقف، قائلاً: كان حلمي دائماً أن يكون جمهوري مثل جمهور جابر أبو حسين.
حين ينشد حسين قصائده الدينية قبل الدخول في رواية السيرة الهلالية، كان يهز مشاعر الجمهور في قنا، تلك المدينة العليمة بفنون الإنشاد والسيرة، التي لا تستمع لأيّاً من كان إلا إذا كانت قد جربته وأيقنت من موهبته، ولذلك فإن اثنين فقط هما من عبرا من غربال الوعي القنائي: الشيخ عبد الباسط عبد الصمد زعيم قراء القرآن الكريم، وعم جابر أبو حسين.
كان لا ينزل إلى قنا إلا إذا اصطحبه صفيه سيد غشيمة "أبو عنتر" اسمه المتداول، حيث كان يستضيف حسين في بيته طوال ليال الإنشاد، وكما يقول الشاعر الكبير الأبنودي فإن بين حسين وجمهوره نوع من الحوار العبقري أثناء روايته، وإذا تطاول عليه أحد أو أشار إلى عور عينيه، كان حسين يرد عليه بالمربعات التي يقص بها الهلالية.
عموماً كان هناك كرنفالاً فنياً عظيماً يسمى مولد سيدي عبد الرحيم القنائي يقام لمدة 15 يوما، يلتقي فيه كل المنشدين من الشمال والجنوب، ويذكر الأبنودي تلك الأصوات الرائعة التي كان يتنقل بينها، والتي يترحم على هذه الأيام التي كانت وعلى ما يبدو لن تعود أبداً. ومايزال عم جابر ينشد : بعد المديح في المكمل أحمد أبو درب سالك احكي في سيرة وأكمل عرب يذكروا قبل ذلك سيرة عرب أقدمين كانوا ناس يخشوا الملامة رئيسهم أسد سبع ومتين يسمى الهلالي سلامة