قبل واحد من انتخابات الرئاسة تبدو مسألة "السيدة الأولى" ضمن المسكوت عنه فى الحملات الانتخابية فيما قد يحق للناخب اثارة تساؤلات مثل:"ماذا عن السيدة الأولى فى الجمهورية الجديدة؟ وهل سيبقى مصطلح السيدة الأولى ام انه سيتغير او يختفى ويدخل فى ذمة التاريخ"؟!. فالمصطلح ذاته يثير تساؤلات حول مدى اصالته بقدر مايثير انطباعات شتى بعضها سلبى فى السياق الثقافى-المجتمعى المصرى..فى ضوء الحقيقة المتمثلة فى ان تعبير "السيدة الأولى" وليد واقع ثقافى-مجتمعى غربى وامريكى على وجه الخصوص.
واذا كان هذا المصطلح قد اثار التباسات واشكاليات فى الواقع المصرى او العربى على وجه العموم فالفارق كبير وواضح بين الاهتمام الواجب بالمشاركة السياسية للمرأة وبين اى تدخل لقرينة الرئيس او احد افراد عائلته فى العملية السياسية وصنع واتخاذ القرارات على نحو غير دستورى وغير قانونى وبما يستوجب المساءلة السياسية ناهيك عن حساب القانون .
ولاريب ان "السيدة الأولى" فى دولة كالولاياتالمتحدة تبقى موضع اهتمام ومتابعة بل ودراسات تاريخية كما هو حال جاكلين كنيدى زوجة الرئيس الأمريكى الراحل جون كنيدى او بات نيكسون التى صدر عنها مؤخرا كتاب جديد بعنوان :"السيدة نيكسون" للمؤلفة آن بيتى وهو بمثابة سيرة ذاتية عن تلك السيدة التى عانت فى نشأتها من ضيق ذات اليد وكانت تهوى التمثيل فى شبابها قبل ان تقترن بريتشارد نيكسون.
وتكاد الصحافة ووسائل الاعلام الحرة تحصى كل حركة للسيدة الأولى فى الولاياتالمتحدة بينما تأتى الكتب ذات المستوى الرفيع لتتناول بالعمق مسيرة زوجة الرئيس وتضع تحت مجهر التاريخ مجمل سيرتها حتى بعد الخروج من البيت الأبيض وبما يخدم الباحثين عن الحقيقة فى نهاية المطاف.
واذا كانت الصحفية فاليرى تريرفيلر توصف بأنها "شريكة" الرئيس الفرنسى الجديد فرانسوا هولاند وباتت تحمل لقب "السيدة الأولى" فى فرنسا بعد الانتخابات الأخيرة فان هذا الأمر الذى يبدو عاديا فى السياق الثقافى-المجتمعى الفرنسى لن يكون كذلك فى السياق الثقافى-المجتمعى المصرى حيث لكل مجتمع منظومته القيمية دون ان يعنى ذلك اطلاق اى احكام مطلقة .
وفى معرض ردها على سؤال عما اذا كان عدم ارتباطها بعلاقة زواج رسمى مع فرانسوا هولاند يمكن ان ينطوى على اى مشاكل دبلوماسية-قالت فاليرى تريرفيلر:"لست متأكدة من ذلك..ربما تطرح هذه العلاقة مشكلة عند زيارة بابا الفاتيكان مثلا.. لكن بصراحة هذه المسألة لاتشغلنى فهناك امور اخرى اهم من ذلك..ومسألة الزواج هى قبل كل شىء خاصة بنا".
واللافت فى سياق الحملات الانتخابية الرئاسية الحالية فى الولاياتالمتحدة ان تقول آن رومنى زوجة رجل الأعمال والمرشح الجمهورى ميت رومنى "انها لم ولن تعمل فى وظيفة خارج البيت..فهى ربة بيت وفخورة بذلك ومقتنعة بما تفعل وتعتبر انها حققت مالم تحققه نساء كثيرات".
ولعل النظرة المتأملة من منظور ثقافة-قيمى لمصطلح "السيدة الأولى" تكشف عن انه دخل الحياة السياسية-الاجتماعية المصرية بطريقة تبدو اقرب للتسلل والمحاكاة المتعسفة لواقع مغاير فى الغرب دون ادراك كاف لحقيقة اختلاف السياقات الثقافية والحضارية بين المجتمعات وهو اختلاف طبيعى ومحكوم بعوامل متعددة.
وتحولت المسألة لاشكالية حقيقية وملنوسة بشدة مع عدم الاكتفاء بالنقل المتعسف من سياق ثقافى-مجتمعى غربى للسياق الثقافى-المجتمعى المصرى حيث بدت الصلاحيات والأدوار التى تقوم بها من حملت هذا المسمى فى مصر اكبر بكثير من الواقع الغربى الذى لاتسمح مؤسساته الديمقراطية بأى وضع غير دستورى او مجاف لروح الدستور والقانون لأى شخص مهما كانت درجة قرابته او علاقته بالرئيس.
من هنا لم يكن شغل جورج بوش الابن لمنصب رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية مثيرا لأى جدل يتعلق بأن والده شغل من قبل منصب الرئيس كما ان دخول هيلارى كلينتون معترك السياسة سواء فى الكونجرس او خوضها معركة الانتخابات الرئاسية وشغلها لمنصب وزيرة الخارجية لم يكن ليثير ادنى جدل من منظور انها زوجة الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون طالما ان الأمر كله محكوم بالقانون والديمقراطية والشفافية والنزاهة الكاملة بعيدا عن اى شبهة لاستغلال النفوذ.
وهكذا فمن الصحيح والمقبول والمتعارف عليه والمسموح به فى اعرق الديمقراطيات ان تدخل السيدة الأولى او اى شخص من عائلة الرئيس لمعترك السياسة كأى مواطن اخر فى ظل قواعد مؤسسية صارمة لاتسمح بأى شبهة استغلال للنفوذ وبحيث تكون صناديق الانتخابات هى وحدها الحكم قولا وفعلا.
وعرف التاريخ المعاصر حالات صارخة للتدخل غير المشروع لزوجة الرئيس فى الشأن السياسى وعملية صنع القرار مثل ايميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفلبينى الراحل فرديناند ماركوس الذى اطيح بنظام حكمه فى انتفاضة شعبية عام 1986 وجيانج كينج الزوجة الأخيرة للزعيم الصينى الراحل ماو تسى تونج التى اتهمت بارتكاب جرائم خيانة فى اطار ماعرف "بقضية عصابة الأربعة".
وكانت جيانج كينج قد تورطت مع ثلاثة مسؤولين مقربين لها فى الحزب الشيوعى الحاكم فى انتهاكات فظة لحقوق الانسان فى خضم ماعرف بالثورة الثقافية التى بدأت عام 1966 بالصين وطويت صفحتها بعد ان اسفرت عن خسائر فادحة سواء فى الاقتصاد او على مستوى الثقافة.
وتقول ديان دوكرى مؤلفة كتاب:"نساء فى كنف الديكتاتورية" الذى صدر مؤخرا ان الديمقراطية هى وحدها التى تحول دون ظهور نساء ديكتاتوريات الى جوار القادة من الرجال حتى لو كانت بعض النساء لديهن استعداد فطرى للتسلط..فالقضية فى جوهرها تتعلق بطبيعة النظام السياسى.
وترى الطالبة الجامعية هناء محمود ان الديمقراطية الحقة كفيلة بمنع اى خروج على روح القانون او حتى تجاوزات قد يفكر فيها اى شخص مهما كانت صفته لأن الديمقراطية الحقة تقترن دوما بمبدأ المسائلة.
وفيما بات السؤال الكبير:"من سينتخبه المصريون رئيسا من بين قائمة ال13 متنافسا فى السباق الرئاسى"؟ يشغل المنطقة والعالم فان هذه الطالبة الجامعية المصرية تؤكد على ان "الجمهورية الجديدة" القائمة على حكم القانون واعلاء الدستور ودولة المؤسسات لايمكن ان تقبل اى تدخل من اى شخص لايتمتع بوضع دستورى يتيح له القيام بدور فى عملية صنع واتخاذ القرار.
وكانت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية قد انتهت من توزيع 14 الق قاض على 352 لجنة رئيسية و 13 الف لجنة فرعية الى جانب اللجان العامة استعدادا لاجراء انتخابات الرئاسة يومى الأربعاء والخميس فى الأسبوع المقبل.
وبدا ظهور زوجات المرشحين فى الانتخابات الرئاسية وافراد عائلاتهم فى سياق الحملات الانتخابية نادرا بما يعكس الثقافة التقليدية للمجتمع المصرى فضلا عن حساسيات ورواسب واخطاء يمكن ادراكها ببساطة بنظرة استرجاعية للماضى القريب الذى رفضه شعب مصر.
وعلى النقيض من "اسلوب الاعتماد على العائلة والشخصنة او ماسمى بالبيت الرئاسى" فى الادارة السياسية الرئاسية لبلد فى حجم وقامة مصر فان المرحلة الجديدة تستدعى كما يدعو بعض المحللين تشكيل مجلس للأمن القومى يضم افضل العقول ذات التفكير الاستراتيجى لمعاونة الرئيس فى صياغة الخيارات للتعامل مع التحديات القائمة والمستقبلية .
واذا كانت هذه الانتخابات الرئاسية تشكل اول انتخابات حقيقية بالمعنى السياسى فى تاريخ مصر وسط توقعات بدخول كتلة كبيرة وجديدة من الناخبين للتصويت خلافا لحالة العزوف الانتخابى فى السابق فان وضع قرينة الرئيس سيكون بدوره موضع تغيير عميق فى بيئة سياسية جديدة افرزتها ثورة 25 يناير.
ولن تكون قرينة الرئيس بعيدة عن الصورة الذهنية التى تكونها الجماهير عن الرئيس الجديد فى حين ان الوضعية الجديدة لمصر بعد ثورتها الشعبية وفى ظل مؤسساتها المنتخبة لن تسمح بأى تدخل من جانب زوجة الرئيس او اى فرد من عائلته فى عملية صنع واتخاذ القرار السياسى بصورة تنطوى على ادنى انتهاك لروح القانون او تجرح الشعور العام للمجتمع.
وكما تقول المحامية ليلى محمد احمد فان ترسيم الحدود لابد وان يكون واضحا لكل ذى عينين بين دور اجتماعى له طابع انسانى وخير وبين التدخل فى الشأن السياسى بصورة تؤثر على عملية صنع القرار وبما يتعارض مع وضع قرينة الرئيس التى هى من الناحية الدستورية والقانونية مواطنة مصرية شأنها شأن ملايين المواطنات.
وكانت السفيرة ميرفت التلاوى رئيس المجلس القومى للمرآة قد صرحت بأن الوثيقة الختامية للمؤتمر الذى سينظمه المجلس يوم السبت المقبل ستكون بعنوان "رسالة الى الرئيس" موضحة ان هذه الرسالة ستتضمن احتياجات المرأة بشكل عام من الرئيس المقبل ومطالبته بتبنى مشروعات تنموية توجه بصورة كاملة الى المرأة التى هى نصف المجتمع.
على ان هناك نظرة اخرى حتى بين ناشطات نسائيات باتت ترفض التمييز بين قضايا الرجال والنساء معتبرة ان هذا الفصل تعسفى لأن القضايا واحدة وهى فى الحقيقة قضايا الوطن الذى يضم الجميع على اختلاف محددات مثل النوع والسن والمعتقد فيما لايمكن تناسى تراث خالد وحاضر فى الوجدان المصرى يؤكد على ان "النساء شقائق الرجال".
ولئن كان الكاتب والمعلق البارز فهمى هويدى قد لاحظ ان المناظرة التى اجريت مؤخرا بين اثنين من مرشحى الرئاسة قد خلت من اسئلة مهمة من بينها على الصعيد الداخلى قضايا وملفات عديدة مثل التنمية والبطالة وتلوث البيئة وسبل استثمار الطاقات البشرية فيحق القول ان مسألة السيدة الأولى كان من المتعين ان تطرح وصولا لاجابات واضحة شافية للرأى العام المصرى الذى يبدو بجلاء انه لم يعد مستعدا لقبول اى نوع من التداخل بين معطيات عائلية وقرارات سياسية-اقتصادية بما يشكل عدوانا على دولة القانون والديمقراطية والعدالة.
ويبدو ان الرئيس الجديد لمصر مدعو للاجابة العملية على مثل هذا السؤال ضمن اسئلة متعددة من قبيل:"كيف نبنى الديمقراطية" وكيف نحقق الشعارات النبيلة لثورة يناير ووفاء للدماء الزكية والأرواح الطاهرة لشهداء هذه الثورة؟.
ان ملامح الرئيس القادم لمصر لابد وان تعبر عن هوية و ثقافة واعراف وتقاليد وقيم المجتمع المصرى وتتفاعل بحساسية عالية مع مخزونه الحضارى وخصوصياته الثقافية بقدر ما تعزز ثقة المصريين فى غد لاصوت فيه يعلو على صوت الدستور والقانون خاصة وان منصب الرئيس يبقى منصبا محوريا فى العملية السياسية ناهيك عن اهميته الرمزية فى ذهن رجل الشارع وهو ذاته الذى يتعين ان يتصدر جدول اعمال اول رئيس لمصر بعد ثورتها المجيدة.
ساعة الاختيار الديمقراطى الحر للرئيس الجديد لمصر تقترب وعليه ان يتذكر فور دخوله مكتبه الرئاسى ان "مصطلح السيدة الأولى" اثار لغطا فى الثقافة السياسية المصرية والشارع والأخطر ان بعض التصرفات والممارسات التى اقترنت بهذه الصفة اعتبرت مجافية لروح الدستور والقانون ومستفزة للشعور العام وكانت احد اسباب حالة الغليان التى انفجرت فى ثورة اطاحت بنظام لتتشكل ملامح نظام ديمقراطى جديد يستحقه شعب مصر تماما كما يستحق رئيسا بقامة مصر وتاريخها وثقلها وثقافتها وشموخها وعبقريتها ونهرها العظيم.
نعم سقط نص الاستبداد سواء كان ذكوريا او انثويا..سقط لأنه كان لابد وان يسقط.. وهاهو شعب مصر يكتب نص الحرية ويختار رئيسه بارادته الحرة لأول مرة فى التاريخ ليبدأ المعركة الفاصلة من اجل تحقيق حلمه الكبير فى النهضة والتقدم والنمو او المشروع النقيض لمركب الفساد والاستبداد وهدر الامكانية.