فيما تستعد بريطانيا لاستحقاقات المشهد الجديد بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت مؤخرا فإن الثقافة تبدو حاضرة بقوة في قلب هذا المشهد وعلى نحو يعيد للأذهان بصورة دالة ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا. ومن الدال أن يصف ستيفن بوولي في طرح بجريدة الجارديان هذه الانتخابات البرلمانية المبكرة بأنها "أفقرت اللغة كما أفقرت البلاد" فيما أنحى باللائمة بصورة خاصة على تيريزا ماي وبقية قادة حزب المحافظين، معتبرا أنهم استخدموا "لغة خطاب سياسي مشحون بالانفعالات ويسعى لإثارة مشاعر الناخبين غير أن مفردات هذا الخطاب كانت بالغة الغموض". وقال في هذا الطرح الثقافي المتعمق إن هذه اللغة للخطاب الانتخابي لحزب المحافظين لم يكن بمقدورها إخفاء الفجوات ولا تصمد أمام تحليل المضمون بصورة معمقة" غير أن انتقاداته لم توفر أيضا حزب العمال حيث اعتبر أن جيريمي كوربن لم يبد نجاحا في الإجابة على "أسئلة افتراضية " وهي أسئلة ينبغي للسياسي المحنك أن يكون مستعدا للإجابة عليها أمام جمهور الناخبين في عالم لم يعد أحد فيه بمقدوره أن يفرق بوضوح بين ماهو واقعي وماهو افتراضي !. وإذا كانت شاعرة البلا البريطاني" كارول آن دوفي قد أبدعت قصيدة بعنوان "حملة" تحمل انطباعاتها ورؤيتها الخاصة وتصور مشاعرها حيال هذه الانتخابات المبكرة فالقاص ا ريتشارد كيلي تناول شخصية تيريزا ماي في قالب قصة منذ أن كانت تتزعم المعارضة في حزب المحافظين ثم أمست وزيرة للداخلية واهتم بمنظورها للإرهاب وسبل محاربته ناهيك عن الصراع السياسي المعتاد بين أكبر حزبين في البلاد أي المحافظين والعمال. والقصة التي اختار لها ريتشارد كيلي عنوان "السكاكين" مشحونة بخيال يلامس الواقع مع اهتمام خاص بتيريزا ماي التي عمد ريتشارد كيلي "لتقمص شخصيتها" فيما رأى في مقابلة مع صحيفة الجارديان البريطانية أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة تشكل هزيمة لهذه الشخصية. والانتخابات المبكرة التي تبنتها تيريزا ماي بصورة متسرعة في نظر مثقفين بريطانيين هي حسب وصف القاص ريتشارد كيلي "هزيمة صنعتها رئيسة الحكومة البريطانية بنفسها لنفسها". وما زالت نتائج الانتخابات البرلمانية البريطانية التي أجريت يوم الخميس الماضي موضع تحليلات وتعليقات متعددة في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة حول انعكاساتها سواء على الصعيد الداخلي أو الفضاء الأوروبي والساحة الدولية ككل. ويرى ستيفن بوولي أن الانتخابات البرلمانية المبكرة الأخيرة في بريطانيا أعادت للمشهد الصورة القديمة التي يتصدرها حزبان هما العمال والمحافظون بينما لم تتمكن الأحزاب الأخرى مثل الحزب الليبرالي الديمقراطي من فرض نفسها كقوة يحسب حسابها في هذه المعادلة حتى رغم أهمية مثل تلك الأحزاب حال تشكيل حكومة أقلية. وبعض الطروحات قد تتخذ منحى مثيرا للتأمل حقا مثل طرح نشرته جريدة نيويورك تايمز الأمريكية لهيذر بروك أستاذة الصحافة في جامعة سيتي اللندنية حول الحريق الذي اندلع مؤخرا في "برج جرينفيل" السكني بالعاصمة البريطانية. فهذا الطرح لم يتوقف كما هو متوقع عند مسائل مثل قواعد الآمان والسلامة في البنايات الشاهقة مثل برج جرينفيل الذي تقطنه نحو 120 عائلة وإنما اتكأت الكاتبة على حادث الحريق لتتناول سياسات الإسكان الاجتماعي في بريطانيا والجمع بين نظامي الملكية العامة والخاصة كتوجه تبناه حزب العمال عندما كان يحكم البلاد برئاسة توني بلير ومدى التزام السلطات المحلية بتوفير المساكن للفئات المهمشة في وقت يختار فيه أثرياء العالم عقارات لندن لتكون مخزنا لملايينهم مما أدى لارتفاع كبير في أسعار الوحدات السكنية. ورأت هيذر بروك أن حريق برج جرينفيل السكني "علامة على أوقات عصيبة ومضطربة في بريطانيا" بعد سلسلة من الأحداث التي قوضت ثقة المواطنين بالمسؤولين وأثارت سخطهم ومن بينها حالة الفوضى التي سادت الحكومة عقب الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكانت رئيسة الحكومة البريطانية قد دفعت باتجاه إجراء انتخابات برلمانية مبكرة على أمل تعزيز وضعية حكومتها وزيادة حصة حزب المحافظين الحاكم من المقاعد البرلمانية غير أن نتائج هذه الانتخابات جاءت على عكس ما تشتهي تيريزا ماي وإن كان مازال بمقدورها تشكيل حكومة أقلية". ومن الدال أن منطقة كينجستون التي تشكل دائرة انتخابية يقع في نطاقها البرج السكني الذي تعرض لحريق كان موضع اهتمام عالمي قد اختار سكانها لأول مرة نائبا عن حزب العمال ليمثلهم في البرلمان خلافا لتوجه انتخابي اعتاد التصويت في الانتخابات البرلمانية لصالح حزب المحافظين. وتوقف القاص ريتشارد كيلي مطولا في كتابه "السكاكين" أمام رؤى وسياسات تيريزا ماي حيال قضايا الهجرة والغرباء" وتهديدات التطرف بصورها المتعددة فيما لا يخفي إعجابه بسياسات وتوجهات الان جونسون الذي كان وزيرا للداخلية في حكومة حزب العمال لمدة نحو عام واحد منذ 5 يونيو 2009 وحتى 11 مايو 2010. وإذ حقق حزب العمال بزعامة جيريمي كوربن اليساري التوجه تقدما واضحا تمثل في زيادة عدد مقاعده البرلمانية بعد الانتخابات البرلمانية المبكرة فخلافا للحالتين الأمريكية والفرنسية لم يحقق اليمين المتشدد في بريطانيا مكاسب كبيرة في المشهد الانتخابي الأخير. ولاريب أن لنتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة في بريطانيا انعكاساتها على الصعيد القاري الأوروبي فيما جاءت هذه الانتخابات قبيل مفاوضات مرتقبة بين الحكومة الجديدة في لندن مع الاتحاد الأوروبي بشأن تفاصيل الخروج البريطاني من هذا الاتحاد أو ما يعرف "بالبريكسيت استجابة لإرادة شعبية جسدتها نتائج الاستفتاء الذي أجرى في بريطانيا منذ نحو عام واحد. وكان جيريمي كوربن زعيم حزب العمال قد اعتبر بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية في بلاده أن مفاوضات "البريكسيت" ستكون فاقدة للشرعية إذا جرت في ظل حكومة أقلية يقودها حزب المحافظون. وجاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في بريطانيا أيضا بعد حوادث إرهابية كان أخطرها الحادث الذي وقع في مدينة مانشستر مؤخرا أثناء حفل غنائي مثيرا تداعيات حدت بتيريزا ماي لتشكيل "لجنة لمكافحة التطرف" ومواجهة التهديدات للقيم الثقافية البريطانية". ولئن اعتبر ستيفن بوولي في طرحه الثقافي المعمق أن حزب المحافظين كان يستخدم "عن عمد مفردات غامضة في سياق لغة الخطاب السياسي أثناء الحملات الانتخابية التي سبقت الانتخابات البرلمانية المبكرة في بريطانيا فإن الكاتب ذاته كان قد ذهب في طرح ثقافي بعنوان "جمهورية الشعب..لغة خطاب الانتخابات الرئاسية الفرنسية" إلى أن مفردات الخطاب الانتخابي لمارين لوبان مرشحة الجبهة الوطنية في الانتخابات الأخيرة كان مشحونا "بالتخويف من الآخر" فيما سعت لتصوير نفسها بأنها "تتحدث باسم الشعب" بينما حاول ايمانويل ماكرون "الحديث باسم الجمهورية". وأشار ستيفن بوول إلى آن ايمانويل ماكرون الذي فاز في هذه الانتخابات الرئاسية عمد بدوره في مفردات خطابه الانتخابي "لإثارة مخاوف الناخب الفرنسي بشدة من عواقب المستقبل" حال انتخاب مارين لوبان رئيسة لفرنسا فيما أبدى هذا الكاتب المعروف بطروحاته الثقافية المعمقة إعجابا بإعلان ماكرون "أن المقاتلين الذين يحتاجهم إلى جانبه في المعركة من أجل فرنسا الغد ليسوا من الخبراء أو التكنوقراط فحسب وإنما هو بحاجة أيضا للفنانين والمبدعين". وكانت مارين لوبان قد تعهدت خلال حملتها الانتخابية في سباق الانتخابات الرئاسية بتعليق الهجرة إلى فرنسا واستخدمت "مفردات خشنة" ضد المهاجرين ضمن "خطاب شعبوي" لإرضاء قاعدتها الانتخابية المناهضة لتدفق المهاجرين على فرنسا فيما لا تخلو مفردات اللغة التي تستخدمها تيريزا ماي من ظلال لمثل هذه المفردات الخشنة وإن كانت أقل حدة. ويتفق العديد من المحللين على أن لنتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في بريطانيا انعكاساتها على العلاقات البريطانية-الأمريكية التي توصف بأنها "علاقات تاريخية" في ضوء خصوصية العلاقة بين الجانبين ارتكازا على عوامل ثقافية وتاريخية والأدوار التي قامت بها لندن لتعزيز التحالف الأوروبي-الأمريكي "عبر الأطلسي". والمضمون الثقافي لهذه الانعكاسات له أهميته في قضايا مثل مدى إمكانية استمرار الغرب الأمريكي-الأوروبي في الإمساك بزمام الحداثة وما بعدها" وتصدير أنماطها القيمية وتجلياتها المادية لبقية أنحاء العالم وقدرة قوى صاعدة عالميا خارج هذا التحالف كالصين في المقام الأول على التصدي لهذه الهيمنة الثقافية. كما تأتي متغيرات المشهد البريطاني في ضوء نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في وقت يلاحظ فيه معلقون تزايد قوة الأصوات التي تنادي في دول أوروبية هامة مثل ألمانياوفرنسا ببناء استراتيجية أوروبية جديدة أقل اعتمادا على ضمانات التحالف مع الولاياتالمتحدة. وإذا كانت الانتحابات البرلمانية الأخيرة في بريطانيا قد أثارت نقاشات ثقافية حول "اللغة" فالعالم يبحث في أوقات مضطربة عن "لغة تدشن نصوصا جديدة وطرقا أفضل للإنسانية..فمتى يدشن العالم لغة جديدة كفجر يمحو الليل الطويل"؟!.