مع تتابع أحداث فيلم ( ملكة الصحراء ) يعترضك السؤال المشروع .. هل أراد مخرجه ومؤلفة فيرنر هيرزوغ رد الاعتبار إلى المستكشفة "غيرترود بيل" التي يؤكد الصحفي في بي بي سي ماثيو أندرسون بأنها لعبت دوراً عظيماً في رسم خارطة الشرق الأوسط كما نراه اليوم ؟ فرغم أن الفيلم تناول جانب السيرة الذاتية وجاء الجانب التاريخي السياسي ، باهتاً وتابعاً لهذه السيرة .. وأرى أن هذا التناول هو المسار الطبيعي لمثل هذه النوعية التي تغوص في تاريخ العلاقة بين الغرب وسياسته في الشرق الأوسط، وكأي عمل فني تتعدد قراءاته وتتباين حسب تباين المراقب والمتابع والقارئ لأحداث التاريخ، الذي يختص بالبحث عند مستوى ذاكرة المدى الطويل Long term retention .. من خلال هذه القراءة يجئ السؤال الثاني المشروع . هل أراد المخرج رد الاعتبار ولو جزئياً إلى العرب بعد تاريخ حافل من النهب والسلب ؟ لكن بعد قراءة سريعة لأحداث الفيلم، نظن ذلك من خلال بعض كلمات المديح للشخصية العربية على لسان غيرترود بيل ولورانس العرب الذي تلتقي به البطلة في رحلتها الصحراوية ، لكن بالتأكيد الاجابة على هذا السؤال بالنفي .. يقدم الفيلم عرضاً لأحداث 12 عاما من سيرة "غيرترود بيل" والذي قامت بدورها الممثلة نيكول كيدمان الاسترالية الأصل الحاصلة على جائزة الأوسكار .. ورغم أن شخصية غيرترود بيل متعددة الأبعاد وعميقة بعمق الدور التاريخي الذي لعبته في منطقة الشرق الأوسط ، فقد جاء أداء نيكول كيدمان خاليا من أي عمق ، وساعد ذلك على تركيز القراءة المباشرة التي تتناول السيرة الذاتية ، تتوارى وراءها الدلالات العميقة للفيلم ، التي نلاحظها في الصحراء الخالية من البشر والمؤثرات الموسيقية التي تشبه النحيب والعديد وأصوات طيور جارحة وكأنها بلا بشر تمثل لهم وطناً .. نتذكر رائعة ديفيد لين عام 1962، فيلم "لورنس العرب". الذي جسّد بشكل درامي لحظات تاريخية مماثلة. منذ لقطاته الأولى بتصوير سينمائي شامل لمناظر الصحراء . ولكنه ظهر في فيلم ملكة الصحراء ( قام بالدور الممثل روبرت باتيسن ) ، ظهر في مشاهد معدودة غير مقنعة برغم الدور الذي لعبه في المنطقة ، تبدأ الأحداث بإجتماع في القاهرة ، في المكتب العربي البريطاني ( Cairo British Arab Bureau ) سنة 1914 ونذر الحرب العالمية الأولى تلوح في الأفق .. يتم هذا الاجتماع في حضور ونستون تشرشل لرسم خريطة الشرق الأوسط ، قبل الضربة الأخيرة للإمبراطورية التركية والتي حكمت العالم العربي الاسلامي 500 سنة ، وبدأ الاستعداد لتقسيم تركة الرجل المريض .. هذه الخريطة التي سميت بخريطة سايكس بيكو ، والذي يبدو أنها لم تعد صالحة في خضم تغير شامل يضرب العالم ، وبدأ بالفعل في رسم خريطة جديدة للمنطقة ستتضح في المستقبل القريب يقول أحد المجتمعين : مشكلتنا مع بن سعود أنه يريد الجزيرة العربية كلها كدولة له ، ويريد حدود مرنة . يقول أخر موضحاً : نريد ملوكاً مستقبليين محتملين . يسأل تشرشل : من أفضل من يعرفهم ؟ غيرترود بيل غيرترود من ؟ سافلة . غبية . مليئة بالقذارة . مخادعة . متشردة وحمقاء قاسية ..و و و غيرترود بيل "المرأة التي أسست العراق"، و يلقبها البعض ب "مس بيلّ". ويتهمها بالجاسوسة ، وأيا كان فلبيلّ تأثير هائل ودوراً في رسم خارطة المنطقة بعد سقوط الامبراطورية العثمانية وباعتبارها "سكرتيرة الشرق لبريطانيا"، ساهمت في وضع حدود العراق، وكتبت دستوره، وضغطت بقوة لمساندة الأمير فيصل، الذي تدعمه بريطانيا، لينصّب أول ملك على ذلك البلد الجديد. لم يعط سيناريو فيرنر هيرزوغ الفرصة لنيكول كيدمان أن تظهر امكانياتها كممثلة عالمية وتنافس على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين 2015 فشخصية غيرترود بيل شخصية استثنائية ، بالنظر لمكانة المرأة في ذلك الزمن. لكن علينا ألا ننسى أن البلد الجديد العراق الذي ساهم في تأسيسه من تركيبة متعارضة من الأكراد والسنة والشيعة ، لا يقدم الفيلم تعليقا عما يجري سياسيا ، ويغض الطرف عن المغامرة الاستعمارية بمجملها ولا تظهر إلا خلفية نابضة بالحيوية لحقبة مليئة بعاطفة مأساوية لقصتي حب فاجعتين في حياة "بيل". "نيكول كيدمان" أجادت دور "مس بيلّ". في حدود النص إنها تدخل في نقاشات لاهثة على ضوء الشموع، وتلقي نظرات الازدراء والتحدي على المسؤولين المتعجرفين، يلعب الممثل "جيمس فرانكو" دور أول حبيب لها، هنري كادوغان، وهو دبلوماسي مبتديء في السفارة البريطانية بطهران ، ويجذبها من خلال صوفية شعر عمر الخيام إلى اللغة الفارسية ، ويرفض أبوها مشروع زواجها من هنري المكبل بالديون ، ويدفعه هذا الرفض إلى انتحاره ، الذي تشكك مس بيل فيه وتدفعها هذه الفاجعة إلى خوض تجربة مثيرة عبر الصحراء. عند مقابلتها للرائد تشارلز داوتي- وايلي (ديميان لويس ) نجد أنفسنا وقد عدنا أدراجنا إلى قصص الحب العاطفية من الطراز القديم ، قدم الفيلم في النهاية ما يشير إلى الدور الكبير الذي لعبته مس بيل في منطقة الشرق الأوسط ( مشهد الملك فيصل وأخوه عبد الله، اللذين تم تنصيبهما من قبل البريطانيين ليصبحا حاكمين للعراق والأردن (وتقوم بترتيب الأمور لهما ليقوما بدورهما في الحكم. ثم ينتهي الفيلم بعرض الأسماء فوق رمال متحركة. ويبقى السؤال .. من تكون مس بيل الجديدة التي تشارك في وضع الرتوش الأخيرة لخريطة الشرق الأوسط الجديدة ؟! وهل سيتم التلاعب بنا كما فعل بنا منذ قرن ويتم تجزئ المنطقة بحدود تخدم في الأساس القوي العالمية ؟ أرجو الإنتباه من الشعوب قبل الحكام ..