فى قلب مهرجان برلين السينمائى الدولى أدركت ماذا يعنى لقب «مهرجان كبير»، وقفت أمام قصر المهرجان فى بوتسدامر بلاست لأشهد عرسا سينمائيا لم أر مثله، فطوابير العشاق بالآلاف تصطف يوميا منذ الصباح الباكر لحجز تذاكر الأفلام، رغم البرد القارس والثلوج والامطار، وتماثيل الدب الفضى مضاءة ليل نهار أمام المارة لتؤكد وجود الحدث المهم، الجمهور يصطف بالساعات ينتظر النجوم ليحييهم ويرحب بهم ويؤكد مكانتهم والاهم هو وجود قائمة افلام لا تخيب الظن، بل تعكس عالما حقيقيا وكبيرا من الابداع. الحقيقة الأخرى أن المهرجانات السينمائية الكبرى تدرك أن ضربة البداية مهمة للغاية، وأنها يجب ان تكون قوية ومعبرة عن طموح إداراتها فى الحفاظ على القمة التى تتوجها بقائمة أفلام أكثر أهمية سواء داخل المسابقة الرسمية أو فى الاقسام الاخرى الموازية مثل البانوراما أو الفوروم، وهذا بحق ما تفعله إدارة مهرجان برلين السينمائى فى دورته الخامسة والستين، حيث جاء فيلم الافتتاح «لا أحد يريد الليل» لينتزع آهات الإعجاب بالأسلوب السينمائى لمخرجته الاسبانية ايزابيل كواكسيت، وبالاداء المبهر والحضور الطاغى لبطلته النجمة الكبيرة جولييت بينوش فى دور جوزفيين التى عبرت عن سعادتها باختيار الفيلم للافتتاح، مؤكدة انه حدث عظيم بالنسبة لها. وكانت بينوش تراقب عيون الجمهور وانفعاله مع مشاهد العمل الذى تطلب منها جهدا كبيرا، كنت أجلس أمامها فى قاعة العرض، وبين لحظة واخرى أرمقها بنظرة لأجدها تتابع شعور الجمهور الذى صفق طويلا وانا معهم عقب العرض وقالت بينوش عن وجودها فى هذا العمل «أنا لا أختار العمل فى فيلم ما، لأن المخرج امرأة أو رجل، بل لأنه فنان وإيزابيل كواكسيت هى فنانة حقيقية»، وأضافت عن الشخصية التى تجسدها «إنها تذهب للبرية وتواجه شكلا جديدا للمشاعر وأسلوبا جديدا للسلوك». بينما قالت المخرجة الإسبانية إيزابيل كواكسيت عن مغزى اختيار فيلمها للعرض فى الافتتاح فى ثانى مرة فقط يعرض فيلم لامرأة فى افتتاح مهرجان برلين «إن فيلمها يتناول قضية المرأة بشكل أساسى، وكان تجربة قاسية من حيث مناخ التصوير واجواء العمل ككل والمليئة بالبرد وقسوة الطقس، لكنه كان ممتعا، والحقيقة اذا تطلب منى تصوير فيلم ما تكون فيه فى أجواء باردة و دون مرحاض ودون أكل أو قهوة، سأفعل ذلك لأنى أعشق السينما ولكن فى الحياة الحقيقية..لا». وأضافت المخرجة «أريد ان تحصل النساء على مال أكثر. لا أريد مساواة فى الأجر.. أريد المزيد (للمرأة)»، وأشارت إلى أن سيناريو الفيلم يلقى نظرة عميقة على سيدتين تجبران على دخول علاقة تسفر عن إعادة تشكيل شخصيتهما. فيلم "لا أحد يريد الليل" المستلهم من شخصيات حقيقية يروى لنا كفاح جوزيفين، زوجة مستكشف القطب الشمالى فى القرن العشرين، روبرت بيرى الذى آثر العيش فى الثلوج القطبية على حياة الرفاهية فى مدريد، وهناك التقى بفتاة من الاسكيمو وتدور بينهما مباراة رائعة للتعبير عن الخط الفاصل بين البقاء على قيد الحياة، والرحيل عنها. وحيث تدور الأحداث عام 1908 فى منطقة جرينلاند المتجمدة، نرى أيضا قصة صراع بين امرأتين على قلب رجل، فى توليفة ضخت فيها المخرجة الإسبانية، إيزابيل كواكسيت، أقصى المشاعر الدافئة والمعقدة لتيمة العشق فى أقصى مناطق الأرض برودة، وتم تصويره فى شتاء بلغاريا، وقرية فينيس النرويجية وهو واحد من ضمن تسعة عشر فيلما تنافس هذا العام على جائزة الدب الذهبى وأعتقد ان بينوش ستنافس بقوة على جائزة، أفضل ممثلة فى المسابقة الرسمية بعد أدائها المتميز، الذى حمل كثيرا من الصدق والواقعية. ويمثل فيه أيضا الممثلة اليابانية رينكو كيكوتشى التى جسدت هى الأخرى دورا رائعا لفتاة ذات تصرفات خاصة تدعى الاكا من الاسكيمو، والايرلندى جابرييل بايرن. المخرجة الإسبانية إيزابيل كواكسيت، شاركت ست مرات فى مهرجان برلين السينمائى، كما كانت عضوة فى لجنة التحكيم عام 2009. بينما بينوش من المترددين باستمرار على المهرجان، حيث يعود تاريخها إلى أكثر من عقدين من الزمان، حين حصلت فى المهرجان فى العام 1993 على جائزة تقدير، بينما حصل فيلمها «المريض الإنجليزى» على الدب الفضى فى 1997، ثم شاركت بفيلم «فى بلادى»، الذى يتعرض لمسألة الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا للمخرج جون بورمان، وقصة الحب الرومانسية «شوكولا» والدراما النفسية «كاميل كلوديل». نعود لحفل الافتتاح الرسمى (ببوتسدامر بلاتس)، وسط برلين، والذى أحضره للمرة الأولى، كان الشعور مختلفا وأنا أجلس وسط كبار نجوم ونجمات العالم، مخرجين حصلوا على جوائز الأوسكار، ها هى الفرنسية اودرى تاتو، والأمريكية نيكول كيدمان، وكيت بلانشيت، وجيمس فرانكو والمخرج الأمريكى دارين ارنوفسكى، رئيس لجنة التحكيم الذى شارك ديتر كوسليك الاعلان عن افتتاح الدورة 65 للمهرجان، والنجم الألمانى دانيل برول، وشخصيات اخرى تمثل الحكومة الألمانية، ومنهم مفوض الحكومة الاتحادية للثقافة والإعلام، مونيكا جروترز. وقالت مونيكا جروترز «حقيقة اننا سنشاهد فيلم (تاكسى) للمخرج جعفر بناهى فى المسابقة الرسمية لا يمكن اعتبارها أمرا مسلما به. اقر بأنك عزيزى ديتر كوسليك ظللت كل عام تقول انك ستدعو جعفر بناهى حتى دعوته أخيرا للمهرجان». ومايكل مولر، عمدة برلين، أيضا حضور وزارى قوى، متمثل فى وزراء «الداخلية، والخارجية، والصحة»، إلى جانب آخرين، وكم كانت فرصة كبيرة أن تسمح لى مس جرينر، مديرة الصحافة، بحضور أجواء تلك الليلة، التى لم يعكر صفوها سوى أننى لم استطع ان ارتدى الاسموكن، لتأخر وصول حقيبة السفر. كانت المفاجأة الكبرى خلال الحفل أن قامت مقدمته المتألقة بالنزول فى الصالة لتحاور نجوم المهرجان من المخرجين والفنانين، وايضا شخصيات اخرى تتحدث معهم بشكل تلقائى بلا سيناريو مسبق للاختيار، وكانت المفاجأة أن تجلس على طرف مقعدى وتسألنى ? how are you، وأجبتها وصورنا تظهر على الشاشة fine، ثم شكرتها، لتواصل حديثها وهى بنفس الجلسة مع من جلس خلفى تماما وهو النجم الكبير جيمس فرانكو بطل فيلم «ملكة الصحراء» أمام نيكول كيدمان، والذى يروى سيرة حياة عالمة الآثار والمؤرخة المستشرقة «جيرتروود بل» (نيكول كيدمان)، أول سيدة ذات أصول بريطانية تحصل على شهادة من جامعة أوكسفوردالأمريكية ويسرد الفيلم قصتها عندما جاءت إلى الشرق الأوسط لإجراء مسح شامل لصالح بلدها وقد سافرت إلى العراق وسوريا وغيرهما بصفة مستشارة للمندوب السامى البريطانى بيرسى كوكس فى بدايات القرن الماضى، ولعبت دورا بالغ الأهمية فى ترتيب أوضاع المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى. الفيلم من تأليف وإخراج الاسطورة الالمانى فيرنر هيرتزوج والحاصل على 44 جائزة وثلاثين ترشيحا لجوائز أخرى من بينها الأوسكار. وقد صور الفيلم فى عدة دول منها المغرب والأردن وسويسرا وبريطانيا مسقط رأس «جيرتروود بل»، التى أطلق العراقيون عليها لقب «خاتون»، ولورانس العرب الأنثى، وشارك فى بطولة الفيلم روبرت باتنسون، داميان لويس، صوفى لاينفيلد، و السورى «جهاد عبده»، الذى عرف بموفقه المناصر للثورة السورية منذ بداية انطلاقها، ويقوم بأداء دور 'فتوح' مرشد جيرتروود ومستشارها فى المدينة، كما فى الصحراء، وذلك لفراسته وخبرته وشدة إخلاصه ودرايته بالمنطقة وأهلها من الحضر كانوا أم من البدو، ما جعل جيرتروود تعجب به وتمنحه كامل ثقتها. وفى اللقاء الصحفى الخاص بأسرة الفيلم شاهدت نيكول كيدمان للمرة الثانية، بعد أن حجزت مقعدى فى الصف الأول، كان هيرتزوج يتولى فى كثير من الأحيان شرح الأسئلة لكيدمان التى انطلقت تتحدث هى الأخرى عنه، وعن عبقريته، بعد أن طل لمدة ثلاث دقائق يتكلم عن موهبة نيكول الرائعة، وكيف أنها تحدت نفسها وهى تقدم مثل هذا الدور الملىء بالمواقف والأحداث التاريخية المتشابكة، وخاصة أنه صور فى بعض الدول الاسلامية وتناول الخلاف بين الحضارات كرؤى فكرية»، وأضاف كل الفريق كان رائعا ومهنيا و أعد كل التفاصيل، والتى دائما تجعل العمل سهلا. ويتنافس فى المسابقة الرسمية للفوز ب "الدب الذهبي" 19 فيلما تمثل تيارات ومدارس سينمائية مختلفة، وهى تعكس فى مجموعها صخب هذا العالم. وأكدت كيدمان أنها جاءت خصيصا إلى برلين من أجل تعزيز فيلمها الذى بذلت فيه جهدا كبيرا منذ اللحظة الأولى لعرض العمل عليها، وقد أكدت كيدمان أن «ملكة الصحراء» فيلم يستحق أن يشاهد، وقالت : "أنا أحب فيرنر هيرتزوغ فهو ما زال يصنع الأفلام مع شىء من العاطفة والحيوية. أعنى، أنه كان هناك فى الصحراء، وقال إنه لا يستخدم المؤثرات الخاصة. حسنا فيرنر أنا سأتابعك". وقد تحدثت عن حماسها لقبول العمل قائلة «عندما علمت أن الفيلم سيصور فى اماكن متعددة وانه كان فرصة للخروج من الروتين بالتصوير داخل استديوهات مغلقة، وفى المغرب طلبت من المخرج أن تصطحب أولادها معها، للتعرف على هذا العالم»، معبرة عن عشقها للصحراء.