أحزان حارة الزعفراني بلا حدود..حواري الجمالية مُوحِشة..شارع المُعز صار يتيماً..القاهرة الفاطمية تنعي مَن خلدها في أعماله..جهينة وسوهاج وكل الصعيد فقدوا الابن والسند..لغة الضاد أمست ثكلي..الرواية العربية والعالمية خسرت سيداً للكتابة وأميراً للسرد والحكي والتجديد في الاُسلوب والشكل والمحتوي..أدب الرحلات..تاريخ مصر وحضارتها وهويتها في مأتم..فقد رحل جمال الغيطاني «حارس كل هذه البوابات».. كذلك ودعت القوات المسلحة المصرية ابناً لم تلده وجندياً غير مجند..والمؤكد أن التاريخ العسكري سيُحرَمُ من الأديب المحارب المهموم بتسجيله..فقد سطر الغيطاني بقلمه المُبدِع وقائع أهم وأصعب المعارك التي خاضها جنودنا ضد العدو الصهيوني الإمبريالي..لَزِمَ الجبهة طوال سنوات الجمر التي أعقبت الهزيمة الكُبري عام 1967..وظل علي خط النار حتي تحققت مُعجزة العبور..أرشيف الحرب شاهد علي تسجيل الغيطاني بطولات الجيش المصري في حرب الاستنزاف، تلك الحرب المنسية «مع سبق الإصرار والترصد « والتي لم تحظ حتي الآن بما تستحقه من اهتمام يليق بأهميتها!!.. وأتصور أن أعظم تخليد وتكريم لتضحيات الشعب والجيش وهذا المراسل الحربي الفذ الذي لم يكتفِ بتغطية العمليات بل شارك فيها ورافق جنودنا في ملحمة العبور، هو رد الاعتبار لحرب الاستنزاف التي خاضها شباب مصر المسلح بالعلم وإرادة التحرير حيث صار الكل في واحد وتُوجَ التحام القادة بالأفراد خلالها باستشهاد رئيس الأركان «الجنرال الذهبي» عبد المنعم رياض في أول خندق للجبهة!!.. تحدث وكتب الكثيرون عن إبداع الغيطاني المُبهر في الرواية وعشقه للتراث والتاريخ المصري بعصوره المختلفة وكتاباته الصوفية وحبه للموسيقي والفنون، ولكن أداءه المتفرد كمراسل حربي، ودوره في التأريخ لحرب الاستنزاف أو «حرب المئة يوم» كما سماها العدو الإسرائيلي، مازالا يتعرضان لإهمال وتعتيم يكاد يبلغ حد المؤامرة..بل أزعم أنها مؤامرة بالفعل تستهدف محو أغلي وأعظم بطولات شعب مصر وجيشها..فالمطلوب هو أن ينسي المصريون والعالم أن هذا الشعب أراد يوماً الحياة ورفض الهزيمة وخرج بالملايين مطالباً قائده بعدم التنحي والبقاء في موقعه لإزالة آثار العدوان وتحرير الارض..وأنه خلال ست سنوات فقط تمكن من تحويل أثقل هزيمة عسكرية إلي أروع انتصار، وذلك بعد إعادة بناء الجيش وتطهيره من العناصر الفاسدة التي انغمست في الحياة المدنية ونسيت دورها الحقيقي فكانت النكسة المُروِعَة..ومع تطوير قدرات الجيش ورفع كفاءته التدريبية والقتالية من خلال تجنيد حَمَلة المؤهلات العليا، استرد المصريون ثقتهم بجيشهم الذي فاجأ العالم بعمليات بطولية نوعية ضعضعت جيش العدو وكسرت غروره ومهدت الطريق لمُعجِزة العبور والانتصار العظيم الذي لم يكتمل لأن «السياسة خذلت السلاح»!!.. وأخيراً..جاءت «معاهدة العار» مع العدو لتفرض»بمعونة» أمريكا شروطاً مجحِفة تسرق ثمار النصر وتنتقص من سيادتنا علي أرض سيناء وتقلص عدد القوات وتحيل للاستيداع جيل اكتوبر..ولحسن الحظ..فشلت ضغوطهم لتغيير العقيدة القتالية!!.. سجل الغيطاني معارك الجنود بحروف من نور ونار سواء في رسائله من الجبهة إلي «الاخبار» أو في كتاباته الأخري..ورحل عنا راجياً أن يُعاد الاعتبار إلي حرب الاستنزاف المنسية وتخليد بطولاتها في الكتب المدرسية والأعمال الأدبية والفنية..وأقل تكريم ل»حارس البوابات» هو أن نحقق ما كان يتمناه لجيش مصر وشعبها..وكانت آخر أمانيه محاربة الفساد بحزم إذ قال في آخر مقابلة صحفية «أنا أريد حزمًا أكثر في مواجهة الفساد ومواجهة بقايا الأربعين سنة الماضية..ولا أتحدث عن مبارك فقط.. فالذي أسس الفساد في مصر هو أنور السادات.. ولا بد من مواجهة..وإرسال إشارات تفتح باب الأمل للشعب».. نقلا عن "الاخبار" المصرية