روسيا لا تملك نظرة الغرب الاستعمارية ببلاد العرب عبده يراسل تولستوي ..وبوشكين يدين لروحانيات الشرق القرن السابع يشهد تبادل التجارة بين الخزر والعرب الدب الروسي ينهي العدوان الثلاثي على مصر ملاحقة الشيوعيين وطرد الخبراء .. أهم الأزمات أجندة الزعماء يجب أن تتضمن عودة الترجمة والبعثات في بحر قزوين، الذي كان المسلمون يملكون نصفه الجنوبي، كانت الحدود تمتد شرقا لتسود حركة تجارية كبيرة بين الخزر (عرق روسي) والعرب، وعلى مصب نهر الفولجا وصلت السفن والقوافل العربية لتستورد الجلود والفراء والأسلحة وتصدر ما تجود به أسواقهم الشهيرة كالمنسوجات والعطور ، حتى أن البعثات الحديثة اكتشفت نقودا عربية بالحفائر الجارية بأرض روسيا، تعود لأواخر القرن السابع الميلادي. هكذا يروي ابن فضلان برسالته ، والقزويني ب"آثار العباد" وغيرهم من المؤرخين المعاصرين الذين تناولوا جذور العلاقات العربية الروسية. وقد امتدت تلك العلاقات وتشعبت عبر العصور، فظل الإتحاد السوفيتي مؤيدا لحق العرب بالإستقلال عن الغرب خلال القرن العشرين، وساهم بدور مشهود في حركات التحرر بالعالم الثالث . لكن حديثا أصبحت روسيا أكثر تحفظا حيال ثورات "الربيع العربي"، ويشكل دعمها لبعض الأنظمة الاستبدادية كنظام بشار الأسد مصدر قلق لكثير من شعوب المنطقة، لكن مع ذلك فالواقع يؤكد أن علاقتها التجارية بالعرب انتعشت كثيرا بالآونة الأخيرة حتى بلغت أكثر من 5 مليار دولار وفي مقدمة تلك البلدان مصر والجزائر والمغرب. وعلى أصداء زيارة الرئيس المصري لروسيا، تحدثنا للأديب والكاتب الصحفي البارز د. أحمد الخميسي، حيث قضى شطرا من حياته هناك، وحاز الدكتوراه بالأدب الروسي، وظل يطالب بلاده بكسر ارتهانها بالغرب والإتجاه شرقا لفتح أسواق جديدة وتدعيم مواقفها العادلة. وقال الأديب أن روسيا تمتاز بانعدام أطماعها الاستعمارية بالمنطقة، بخلاف أمريكا التي لا تتوانى عن استخدام ترسانتها إذا ما تهدد البترول الذي تستنزفه من العالم العربي. عمق التاريخ المشترك يقول الخميسي : تعود علاقات العرب وروسيا منذ ارتحل ابن فضلان مبعوث الخليفة العباسى إلى روسيا عام 922 ميلادية، وكتابه «رحلة ابن فضلان إلى الفولجا» الذى سجل فيه ما شاهده هناك وما لاحظه من طباع الروس وعاداتهم. أما إذا أرخنا للعلاقة بدخول الإسلام إلى جنوبروسيا فى القرن السابع فسنجد أنها تمتد إلى ألف وثلاثمائة عام لم تتوقف فيها العلاقات التجارية والثقافية والعسكرية أيضاً. وفى المقابل تولى الرحالة الروس تقديم مصر إلى بلادهم كما فعل «إيجومين دانييل» فى القرن 12، و«فاسيلى جاجارا» الذى زار القاهرة ووصف شوارعها وسجل أنه رأى فى النيل وحشاً ضخماً لم يسبق له رؤيته، يقصد التمساح! ومع نهضة روسيا فى القرن 17 عهد بطرس الأكبر تم عام 1748 افتتاح أول قنصلية روسية فى مصر. وفى الثلث الأخير من القرن 18 طلب على بك من القيصرة كاترينا الثانية مساعدته فى الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية فأرسلت إليه عدة سفن حربية رابطت فى مياه الجزر اليونانية! وفى إطار مشروع محمد على لتحديث مصر راح يبحث عن طريقة لاستخلاص الذهب من رمال السودان، فاستدعى القنصل الروسى وأهداه علبة نشوق ذهبية فاخرة وسأله إن كان لدى روسيا علم بكيفية استخلاص الذهب؟ وهل تستطيع روسيا أن تمده بالمعدات الخاصة بذلك؟ فأجابه القنصل بالإيجاب، وهكذا أرسل محمد على عام 1845 أول مبعوثين مصريين لدراسة علم التعدين فى سيبيريا وهما: إيليا داشورى، ومحمد على وأثار الاثنان دهشة الروس الذين تعجبوا من شابين أسمرين إفريقيين يدرسان بجدية فى درجة حرارة تقل عن أربعين تحت الصفر! وبرزت روسيا على خريطة الاهتمامات المصرية فقام الأمير عباس حلمى عام 1888 بزيارتها وقام الأمراء الروس برد الزيارة. ولم تنقطع العلاقة إلا عام 1917 مع قيام الثورة الاشتراكية، لكنها عادت إلى مجاريها عام 1937 حين تبادل البلدان الاعتراف مجدداً، ثم استؤنفت العلاقات فى أغسطس 1943 ولم تنقطع من يومها، وظلت تتسع لمختلف أشكال التأثير والتأثر، فقد كتب أمير الشعراء الروس بوشكين يقول «العرب ألهموا ملاحم العصور الوسطى كل الرقة والنشوة الروحية والحب»، كما كتب هو نفسه «قبسات من وحى القرآن»، وكانت هناك رسائل متبادلة بين الإمام محمد عبده وليف تولستوى مؤلف الحرب والسلام. والآن، بانفتاح آفاق التعاون بين البلدين مجدداً تواصل العلاقة تعميق مجراها التاريخى والحضارى والثقافى. يواصل الخميسي : لن ينسى أحد مواقف روسيا حين هددت بالتدخل عسكريا إذا ما استمر العدوان الثلاثي على مصر، وكان دورها حاسما بإنهائه، والذي اندلع بمؤامرة فرنسية بريطانية إسرائيلية، عقابا لمصر على تأميم شركة قناة السويس عام 1956 ، وبعد عام واحد وبسبب الموقف الروسي كان الانسحاب الفوري من بورسعيد في 23 ديسمبر 1956 والانسحاب الاسرائيلي من سيناء لاحقا في فبراير 1957 . وقد شهدت تلك الفترة توترات لاحقة بين عبدالناصر وخروشوف، بسبب مناهضة ناصر للشيوعيين، واتهامهم بتخريب الوحدة الوطنية بين مصر وسوريا، لكن ذلك لم يمنع توطد العلاقات الروسية المصرية ؛ حيث انطلقت بتمويل السد العالي ودعم برامج التنمية الصناعية في مصر بإنشاء مجمع الحديد والصلب في حلوان ومصانع الغزل في المحلة وكفر الدوار وشبين الكوم بالتعاون مع المعسكر الشرقي الالماني واليوغسلافي والتشيكي والرومان وتسليح الجيش المصري وتدشين مصانع الإنتاج الحربي. من جهة أخرى كانت روسيا مقصدا للبعثات المصرية للخارج، وقد شهدت علاقتها بمصر بعض التوتر خلال حكم الرئيس السادات وخاصة بعد طرد الخبراء السوفيت واتهامهم بالعمالة بمكالمة تليفون واحدة! وقد شاب العلاقات بين البلدين فتور نسبي صاحبه انهيار الاتحاد السوفيتي بالتسعينات وعاد الدفء مع مطلع الألفية الجديدة بنهاية عهد الرئيس مبارك . أثر الثقافة المتبادل وبسؤاله عن التأثير الثقافي المتبادل بين مصر وروسيا، قال الخميسي : لقد خرج فن القصة بمصر على يد الأخوين عبيد ثم مع أيقونة القصة يحيى حقي، وشيخ الأدباء نجيب محفوظ، وكلهم تأثروا بالقصص الروسية العظيمة، وكان محفوظ قد أدلى بحوار لصحيفة مصرية أخبر فيها أن القصة التي تأثر بها كثيرا كانت "الحرب والسلام" لتولستوي، كما كان للشاعر بوشكين وتشيخوف أديب روسيا البارع وغيرهم أثر ما يزال حتى الآن بين القراء والكتاب بمصر. من جهة أخرى، كانت بعثات روسيا الفنية والثقافية تجوب مصر خلال الستينات، كفرق الباليه ومعهد الكونسرفتوار الذي تأسس بدعم روسي، وكانت تحظى بإقبال كبير من المثقفين. ومن هنا يؤكد "الخميسي" لمحيط أن الثقافة لابد ألا تظل الابن اليتيم على موائد الزعماء حين يقررون مصائر شعوبهم، ويدعو الرئيس السيسي لإعادة العلاقات الثقافية المصرية الروسية لسابق قوتها وفعاليتها، ويعتبر ان ذلك لا يقل أهمية عن استيراد أسلحة أو تصدير طاقة أو ما شابه. وهو يدعو لعودة الترجمة العربية النشطة من وإلى الروسية. وقال القاص المصري، ردا على تساؤل حول الربيع العربي، أن مثقفي روسيا وأدباءها لازالوا ينظرون بعين الريبة للربيع العربي، خاصة بعد نتائجه الكارثية بالعراق وليبيا وسوريا واليمن، وتونس ومصر بدرجة أقل، وهو ما يدعم لديهم فرضية المؤامرة التي تحاك باسم الربيع وإزاحة الإستبداد من قبل المعسكر الغربي، وعلى أية حال، فهم متفهمون وقريبون من شعوب المنطقة ويتعاملون مع كوننا عرب لنا قومية تجمعنا وهذا منطق هام يفتقده الغرب أحيانا . أخيرا سألناه، هل تذكر تلك الزيارة بصورة تجمع عبدالناصر بخروشوف؟، فقال : إنك لا تسبح النهر نفسه مرتين، ويعني أنك تكون في المرة الثانية قد اختلفت والنهر نفسه قد تغير، ولا يجب أن نحصر انفسنا في سياقات تاريخية انتهت، فروسيا الآن تتعامل بمنطق براجماتي لضمان مصالحها بالمنطقة، وقد صارت دولة أوروبية اقتصاديا، بمعنى أنها لم تعد قلعة الإشتراكية كما كان بالماضي، وسياسيا أيضا تحرص روسيا على سياسة أكثر مهادنة مع القوى العظمى أمريكا وأوروبا، وإن اختلفوا سياسيا فموائد المفاوضات تحسم الجدل، ولهذا يجب التركيز فيما يمكن أن نتبادله مع دولة لا تطمع بمواردنا وليس لديها ماضي استعماري دموي بأرضنا، باستثناء الحروب العالمية التي تورطت فيها دول العالم قاطبة، وكانت الدولة العثمانية وروسيا جزء منها بالطبع. مراسلات تولستوي وعبده من "عين شمس- ضواحى القاهرة – فى 8 إبريل 1904 " كتب محمد عبده : أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك. سطع علينا نور من أفكارك وأشرقت فى آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك. هداك الله إلى معرفة الفطرة التى فطر الناس عليها ووقفك على الغاية التى هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه و سعياً يبقى ويرقى به نفسه. شعرت بالشقاء الذى نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التى لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم و زعزع طمأنينتهم. نظرت نظرة فى الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم علية. فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم. وكما كانت آراؤك ضياء يهتدى به الضالون كان مثالك فى العمل إماماً يقتدى به المسترشدون. وكما كان وجودك توبيخاً من الله للأغنياء كان مدداً من عنايته للفقراء، وإن أرفع مجد بلغته وأعظم جزاء نلته على متاعبك فى النصح والإرشاد هو الذى سموه بالحرمان والإبعاد. فليس ما كان إليك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس بأنك لست من القوم الضالين. فاحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم كما كنت فارقتهم فى عقائدهم وأعمالهم. هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد فى حياتك ويحفظ عليك قواك ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام. فرد تولستوي : صديقى العزيز تلقيت خطابك الكريم الذى يفيض بالثناء على. وأنا أبادر بالجواب عليه مؤكدا لك ما أدخله على نفسي من عظيم السرور حين جعلنى على تواصل مع رجل مستنير و إن يكن من أهل ملة غير الملة التى ولدت عليها وربيت فى أحضانها. فإن دينة ودينى سواء لأن المعتقدات مختلفة وهى كثيرة، ولكن ليس يوجد إلا دين واحد هو الصحيح. وأملى ألا أكون مخطئا إذا افترضت، استناداً إلى ما ورد فى خطابك، أن الدين الذى أؤمن به هو دينك أنت، ذلك الدين الذى قوامه الإقرار بالله و شريعته والذى يدعو الإنسان إلى أن يرعى حق جاره، وأن يحب لغيره ما يحب لنفسه. وأود أن تصدر عن هذا المبدأ جميع المبادئ الصحيحة، وهى واحدة عند اليهود وعند البرهمانيين والبوذيين والمسيحيين والمحمديين. واعتقادى أنه كلما امتلأت الأديان بالمعتقدات و الأوامر والنواهى والمعجزات والخرافات تفشي أثرها فى إيقاع الفرقة بين الناس، ومشت بينهم تبذر بذور العداوة والبغضاء. وبالعكس كلما نزعت إلى البساطة وخلصت من الشوائب اقتربت من الهدف المثالى الذى تسعى الإنسانية إلية، وهو اتحاد الناس جميعاً. من أجل ذلك ابتهجت بخطابك ابتهاجاً غامراً، وودت أن تقوى بيننا أواصر القربى والتواصل. ما رأيك فى مذهب الباب ومذهب بهاء الله وأتباعه؟ تفضل أيها المفتى العزيز محمد عبده بقبول وافر التقدير من صديقك ليو تولستوى 12 مايو 1904