على سفوح جبل زغوان، الذي يرتفع عن سطح البحر 1295 مترًا، شيّد الرومان منذ القرن الثاني للميلاد معبدًا، قدسوا فيه المياه النابعة من هذه المرتفعات الشامخة، وتبرّكوا بها ليكون بمثابة تعويذة، على مقربة من مدينة تحمل اسم الجبل نفسه. جبل زغوان (60 كلم عن العاصمة تونس)، يرسو على مائدة مائية وعيون عذبة لم تنضب ولم تجف، ولا تزال تروي ظمأ سكان العاصمة تونس حتى اليوم. ويعتبر عبد القادر هنية، من سكان زغوان، ويعمل دليلاً سياحيّاً، في حديث للأناضول، أن "معبد المياه هو الوثيقة التاريخية الأساسية، بل تكاد تكون الوحيدة لهذه المدينة، كما أنه دليل على أهمية المياه فيها، والتّي تميزها عن غيرها من المدن." ويقول إن "معبد المياه يعد معجزة معمارية وهندسية، وشاهدًا على رغبة الإنسان في تلك الحقبة الزمنية في جعل حياته عصرية أكثر فأكثر، من خلال ابتكار أساليب متجددة رغم صعوبة الحياة". ويقع المعبد على مسافة 3 كلم، من المدينة العتيقة في زغوان، المقامة فوق أنقاض مدينة رومانية، كانت تسمى حينها "زيكوا"، كما أن وُجوده مرتبط ب "عين زغوان"، التّي تعدّ واحدة من أكبر عيون المياه في البلاد. وبحسب حمدان بن رمضان، الباحث في علم الآثار، في المعهد الوطني للتراث، "فقد بنيت الحنايا قبل معبد المياه وقد أمر الامبراطور الروماني أدريانوس (خلال فترة حكمه) بتشييد الحنايا وجلب المياه من زغوان إلى قرطاج التي كانت مركز الحكم آنذاك، بعد أن اجتاحت البلاد 5 سنوات من الجفاف. (الحنايا : هي سواقي طويلة شيدت في العهد الروماني لنقل المياه) ويتابع بن رمضان : " شيّدت في تونس معابد كثيرة عبر تاريخها، منها معبد الإله جوبيتير، وهو الاله الأعظم ومعبد مارس، وهو اله الحرب والسلم، ومعبد ماركور، وهو اله التجارة، فضلا عن معابد آلهة المياه والبحار، نبتون، ولكن معبد المياه بزغوان يعد من أكبر المعابد التي بنيت ولها علاقة بالمياه كما أنه من اكثر المعالم التّي حَافظت على صبغتها الأولى منذ نشأتها." وأقيم المعبد على الطراز الرّوماني، بطريقة تم الاعتماد فيها على حجارة، جُلبت من جبال زغوان وضواحيها، بالإضافة إلى استعمال الرخام المصري واليوناني والإيطالي للزخرفة." ويتكوّن المعبد من أدراج يمينًا وشمالاً، تأخذ الزائر مباشرة إلى ما كان يسمى حينها " ببيت المقدس أو المعبودة" (حسب ديانتهم آنذاك)، حيث آلهة الماء والبحر، "نبتون" التي كانت مقدسة كثيراً من قبلهم، إضافة إلى الصّحن والرواق حيث تقام طقوس التعبّد، لتحملك الأدراج إلى الحوض، الذّي تتجمع فيه المياه، في الطريق نحو نحو الحنايا، لتبدأ الرحلة نحو قرطاج القديمة. ويعتبر بن رمضان، أن "هذا الحوض هو بمثابة نقطة وصل ما بين الدّيني واليومي، لدى الرومان آنذاك." وبحسب المجسمات التوثيقية، فقد نُحت على جوانب المعبد عروستا ماء وبحر، أما على يمينه ويساره فهناك 12 محراباً، فيكل واحد فيها عروسة من عرائس الماء (تماثيل). كما كان المعبد في السابق مكسوًّا بقباب وأعمدة، على الطراز الروماني، ولكن لم يبق لها أثر اليوم، فقد نقلت لاستعمالها في بنايات أخرى كالمساجد والحمامات والفنادق. ووفق الباحث في علم الآثار، فإنه "مع بداية القرن 4 بعد الميلاد، وعندما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، تم إِخراج كل التماثيل التي لها علاقة بالوثنية، من المعابد والمعالم، وتم إيداعها كعناصر فنية استعملت للزينة في الحمامات، كما تم ردم بعضها". ويتابع " أما مع الفتوحات الإسلامية، وتحديدًا في بداية القرن 7، فقد تمّ تحطيم التماثيل والأصنام، فيما اعتمدت الأعمدة والتيجان في المساجد كالجامع الكبير في زغوان الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن 17." وأضاف بن رمضان أن "هناك معلمين آخرين يقعان في محيط المعبد تم اكتشافهما مؤخرًا، الأوّل سنة 1998 وهو معبد مياه بيضاوي الشّكل، لا تزال الحفريات حوله قائمة إلى اليوم، ومعبد المياه الصغيرالذي يعود اكتشافه إلى سنة 2001 والدّراسة حوله لا تزال متواصلة." وكانت قرطاج "عاصمة لمقاطعة رومانية كان اسمها إفريقية البروقنصلية كان يحكمها بروقنصل، وقد تطلب بناء حمامات أنطونيوس وهي أكبر حمامات، في شمال إفريقيا، توفر مورد ماء متواصل، لذلك قام الجيش الروماني بدراسة فنية وطوبورغرافية (علم رسم الخرائط) وتبين أن عين زغوان هي الأقرب وهي القادرة على فعل ذلك." ودام انجاز مشروع الحنايا الرومانية ووصلها من زغوان إلى قرطاج 30 سنة. ووفق الباحث فإن " المشروع يكتسب أهميته، من خلال قدرة من شيّده آنذاك على مواجهة الصعوبات الجغرافية والبناء في مناطق مرتفعة وأخرى منخفضة، تطلبت إقامة أقواس عالية لنقل المياه، وهو إنجاز قياسي بالنّظر إلى تلك الفترة الزمنية وللمعدات الموجودة آنذاك." كما يعتبر بن رمضان أن "رمزية الماء تكمن في القيمة التّي كان الرومان والإغريق يوليانها له، فقد كانت الآلهة، تعبد كواسطة بين العبد وبين القوة الطبيعية متمثلة في الماء، المقدسة لديهم." ويضيف الدّليل السياحي، عبد القادر بن هنية، أنه تم اختيار مدينة زغوان "لتميزها بعيون تتدفق من أعالي الجبال، ينبع منها ماء زلال، لا يجف ولا ينضب، لا سيما وأن المدينة أقيمت على سفوح هذا الجبل، وتعلو مستوى البحر." كما يشير إلى أن " المياه المخزنة حينها قدّرت ب 25 ألف متر مكعب، وكمية المياه التي كانت تصل من زغوان إلى قرطاج قدرت ب 32 مليون لتر يوميًا." ويتابع أن "معبد المياه شيد لعبادة الماء وتقديسه، ولمنح الحياة لسكان تونس، في ذلك الوقت وهو ما يعكس معرفة الإنسان في تلك العصور بقيمة هذه الثروة الطبيعية ومكانتها في حياته اليومية، على عكس المعابد الأخرى الموجودة في العالم والتي أقيمت لدفن الرموز حينها." وتقديسا لآلهة الماء نبتون، كانت تذبح لأجلها الذبائح و تقام الطقوس وتؤدى العبادات. ويقول الباحث بن رمضان "أن الماء حظي في تلك الحقبة الزمنية بأهمية كبرى، حضريًا ومعماريًا، ففي كل منزل كان السطح يستغل لتخزين الماء، كما توجد في وسط المنزل فسقية تبنى تحت الأرض." ويضيف بن رمضان أن " استغلال مياه زغوان تواصل في الفترة الاستعمارية لتونس (من 1881) بإعادة ترميم الحنايا منتصف القرن 19، واستغلالها من قبل البايات وأن هذه العيون تقوم إلى اليوم بتزويد منطقة زغوان وأجزاء هامة من تونس بمياه الشرب."