بلغت ضحكاته عنان السماء وبفضلها كادا الأبوان أن يطيرا بلا جناحين. رضيع ..مذاقه يشبه العسل ووجهه يقترب من القمر.. هذا هو آدم، الذي ملأ جو رحلة أبويه الشابين إلى النيل بالبهجة والسعادة، ولكن للأسف لم يرى أيا منهما ضحكته هذه ثانية، فقد داهمه مرض "ضمور في المخ"، بعد أن عانى ارتفاعا في درجة الحرارة وساقه القدر لطبيب ليس لديه ما يطلقون عليه مسمى "ضمير". وقام هذا الطبيب بالتقليل من حده مرض آدم ووصف له علاج لا يسمن ولا يغني من جوع، واستمرت حرارة ذلك المسكين في الارتفاع، ومع قلة خبرة الأم، فهو طفلها الأول، فلم تعرف أن ما هو فيه يشكل خطرا على حياته، واعتمدت على كلام الطبيب.. "يعني هفهم أكتر من الدكتور".. وظلت تعطيه الجرعات الموصوفة. واستمر بكاء الرضيع ومرضه إلى ان أُنهكت قواه، فسكت عن البكاء وبدأت الآهات والأنات إلى أن عاد أبيه من العمل وفجع من مظهره فأخذه إلى الصيدلي، وهو في حالة يثرى لها، فقد تدلت رأسه من فوق كتف أبيه وتهدلت عضلات جسده، والذي لم يقدم ولم يؤخر ونصحه بالتوجه لطبيب آخر أو مستشفى أبو الريش. ومنذ ذلك اليوم .. وبدأت دوامة المستشفيات الحكومية، والتي دخل بأحدها العناية المركزة وكان يحرك جسده قليلا فخرج منها بلا حراك، واستسلمت الأم لقضاء الله في رضا تام، وبدأت تتابع حالته مع أحد الأطباء المتخصصين في المخ والأعصاب، الذي أكد لها أن حالته من الممكن أن تتحسن بعد إجراء عملية جراحية خارج مصر، وهو ما لا يلبيه دخل الأسرة البسيط. وفي أحد الأيام ..شاهدت الأم برنامج تليفزيوني شهير أعلنت مذيعته الذائعة الصيت بأن البرنامج يتكفل بعلاج حالات ضمور المخ لدى الأطفال ويتحمل تكلفة سفرهم للخارج لإجراء العمليات التي تحسن من حالتهم. ولم تكذب أم آدم الخبر، وانهت معظم دخلها على الاتصال بالبرنامج دون جدوى وحاولت الوصول لمذيعته الشهيرة وذهبت بنفسها لمدينة الإنتاج الإعلامي وحصلت بالفعل على رقم إحدى معدات البرنامج، وعلى الفور اتصلت بها، فكان ردها غاية في الغرابة بعد أن عرفت أن عمر آدم عام، فردت بمنتهى البرود وبمنطق يخلو من الرحمة :" لسه يا مدام .. لسه الولد صغير، بتدوري عليه من دلوقتي..استني لم يبقى عنده سنتين وبعدين دوري على سفره لبره". صدمت الأم ولكن لم تيأس..وظلت تشحن تليفونها المحمول وتنتظر البرنامج في ميعاده وتقوم بالاتصال بلا كلل ولا ملل لعلها تتحدث مع المذيعة على الهواء لتأخذ وعد مباشر منها بسفر ابنها للخارج، لأنها تريد أن ترى من جديد بسمة وليدها وتسمع صوته وتستعيد تفاصيل بكاءه ويتجاوب معها ولو بأقل التعبيرات. وفي النهاية .. يعجز قلمي، الذي يقطر دمعا، وقلبي، الذي يعتصره الألم على أن أصف ما تعيشه الأم من معاناة بصمت وليدها وسكونه القاتل وإيمانها الشديد بأنه سوف يأتي اليوم الذي يشفى فيه، فالله مع الصابرين.