لم يجد الوسيط الأفريقي ثابو امبيكي مخرجا سوى تأجيل الجولة السابعة من المفاوضات بين الخرطوم ومتمردي الحركة الشعبية - قطاع الشمال إلى أجل غير مسمى، وهو ما يضع الخصمين أمام سؤال عن مدى جديتهما في إنهاء حربهما المتطاولة حيث فشلا في كل الجولات المنصرمة في مجرد التوصل لاتفاق بشأن أجندة التفاوض، فضلا عن حسمها. فتباعد المواقف التفاوضية للطرفين يرده مراقبون لحالة انعدام الثقة بينهما والتي ورثاها من فترة تعود لأكثر من عقدين قبل اندلاع النزاع المباشر بينهما في يونيو/ حزيران 2011. وتقاتل الحركة الشعبية الحكومة منذ يونيو/ حزيران 2011 في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمتين لدولة جنوب السودان، وتتشكل من مقاتلين انحازوا للجنوب في حربه الأهلية ضد الشمال والتي طويت باتفاق سلام أبرم في 2005 ومهد لانفصال الجنوب عبر استفتاء شعبي أجري في 2011. بداية النزاع وبدأ النزاع بعد خسارة مرشح الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو ونائب رئيسها الحالي لمنصب والي ولاية جنوب كردفان في الانتخابات التي أقرتها اتفاقية السلام مع الجنوب واتهمت الحزب الحاكم بتزويرها حيث كانت لا تزال تحتفظ بقواتها وسلاحها الذي ساندت به المتمردين الجنوبيين. واتهمت الحركة الحكومة وقتها بالتنصل عن امتيازات منحتها اتفاقية السلام لمناطقهم. وبعد أسابيع فقط من اندلاع النزاع تمكن الوسيط الأفريقي ثابو مبيكي من إقناع الطرفين بعد أيام قليلة من التفاوض في أديس أبابا بالتوقيع على اتفاق إطاري. رفض الاتفاق لكن الرئيس السوداني عمر البشير والمكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم رفضوا الاتفاق بعد أيام من توقيعه بحجة أن الوفد المفاوض لم يكن مفوضا للاتفاق على بعض البنود الواردة فيه ومنها بند ينص على شراكة سياسية. وتسبب رفض الحزب الحاكم للاتفاق في انتقال النزاع في سبتمبر/ أيلول 2011 إلى ولاية النيل الأزرق التي كان يشغل منصب الوالي فيها رئيس الحركة الحالي مالك عقار عقب فوزه في الانتخابات التي أجريت في أبريل/ نيسان 2010 قبل أكثر من عام من انتخابات جنوب كردفان التي تنتج غالبية النفط السوداني الذي يقدر بنحو 140 ألف برميل يوميا. وفي خطوة تصعيدية شكل قطاع الشمال في نوفمبر/ تشرين ثان 2011 تحالفا مع 3 حركات تحارب الحكومة في إقليم دارفور، غربي البلاد، منذ 2003 باسم الجبهة الثورية نص بيان تأسيسه على إسقاط النظام بالقوة هي حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور وحركة تحرير السودان بقيادة أركو مناوي الذي انشق عن نور في 2006. تبع تشكيل التحالف تصعيد عسكري عنيف بين الجيش والحركات المناوئة له أججه تصعيد مماثل بين الخرطوم وجوبا حيث تنفي الثانية اتهام الأولى بدعم مقاتلي قطاع الشمال، وتقول إنها قطعت علاقتها التنظيمية بهم عشية انفصال البلدين في 2011. وبلغ التصعيد العسكري بين الخرطوم وجوبا ذروته في أبريل/ نيسان 2012 باحتلال جيش جنوب السودان لمنطقة هلجليج النفطية لمدة 10 قبل انسحابها، وهو ما وضع البلدين على شفا حرب حدودية شاملة سعى مجلس الأمن الدولي لتفاديها بإصدار قراره 2046 عام 2012. وألزم مجلس الأمن في قراره الخرطوم وجوبا بتسوية نزاعهما وكذلك الخرطوم وقطاع الشمال، مع التهديد بفرض عقوبات تحت الفصل السابع على الطرف المتعنت. الجولة الثانية واستجابة لقرار مجلس الأمن دخلت الحكومة وقطاع الشمال في جولة مفاوضات ثانية غير مباشرة برعاية وسيط الاتحاد الأفريقي المدعوم من مجلس الأمن الدولي ثابو مبيكي. لكن جولة المفاوضات الثانية فشلت بسبب خلاف الطرفين حول أجندة التفاوض حيث اشترطت الخرطوم التفاوض مع قطاع الشمال على قضايا ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق فقط بينما طالب القطاع بأن يكون التفاوض شاملا لكل أزمات البلاد على رأسها أزمة الحكم والتأسيس لتحول ديقراطي في البلاد واقتسام عادل للسلطة والثروة بين أقاليم البلاد. ومن القضايا الخلافية أيضا تباين رؤية الطرفين حول أولوية الأجندة؛ حيث تطالب الخرطوم بإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار أولا بينما تطالب الحركة الشعبية بمنح الأولوية لملف المساعدات الإنسانية وكيفية إيصالها عاجلا للمتضررين، وهو ما تتخوف منه الحكومة وتقول إنه دون وقف إطلاق النار فإن المساعدات الإنسانية ستمرر إلى مقاتلي الحركة بدلا عن المدنيين. وتقدّر الأممالمتحدة عدد المتضررين من النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق بنحو 1.2 مليون شخص. وانهارت في أبريل/ نيسان 2013 جولة المفاوضات الثالثة لذات الأسباب وكذلك جولة المفاوضات الرابعة التي انطلقت في فبراير/ شباط الماضي وعلقها الوسيط لمدة عشرة أيام قبل استئنافها في مارس/ آذار دون التمكن من تقريب وجهات النظر رغم أنه كان يعول على الدعوة التي وجهها الرئيس السوداني عمر البشير لكل أحزاب المعارضة والحركات المسلحة لحوار شامل. حل تلقائي فالوسيط امبيكي رأى في دعوة الحوار حلا تلقائيا لخلاف الطرفين، ونجح في الحصول على تفويض من الاتحاد الأفريقي للمساعدة في إنجاح عملية الحوار الوطني المتعثرة هي الأخرى حيث قاطعتها غالبية أحزاب المعارضة والحركات المسلحة ووضعت شروطا مشتركة لقبولها. ومن أبرز الشروط وقف الحرب وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وتشكيل حكومة انتقالية تشرف على عملية الحوار وتنفيذ مخرجاته بصياغة دستور دائم وإجراء إنتخابات حرة ونزيهة. وخلال الأشهر الماضية، نشط امبيكي لتفعيل عملية الحوار الوطني مستفيدا من توسيع تفويضه حتى يتسنى له طرح كل القضايا ضمن مسار واحد. وخلال هذه الفترة وتحديدا في أغسطس/ آب الماضي نجح قطاع الشمال وبقية حلفائه في الجبهة الثورية في التوصل لاتفاق مع الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي، أكبر أحزاب المعارضة بالبلاد، بعد يومين من المداولات في العاصمة الفرنسية أطلقا عليه اسم "إعلان بارس". وحوى الاتفاق شروطا مشتركة لقبول دعوة البشير للحوار من بينها أن يكون الحوار شاملا للجميع دون تعدد المنابر وتجزئة الحلول، وحذرا الحزب الحاكم من لجوئهما بالتنسيق مع كل القوى السياسية بالبلاد إلى خيار "الانتفاضة الشعبية" ما لم يستجب لشروطهما للحل السلمي. وتحظى الشروط التي وضعتها مجموعة باريس بدعم أحزاب معارضة أخرى ذات نزعة يسارية متكتلة في تحالف يضم نحو 20 حزبا. مشاورات منفصلة وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، شرع امبيكي في إجراء مشاورات منفصلة بأديس أبابا مع مجموعة إعلان باريس وآلية (7+7) والتي تضم ممثلين للحزب الحاكم وأحزاب المعارضة والتي قبلت دعوة الحوار وأبرزها حزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه حسن الترابي وحزب الإصلاح الآن المنشق من الحزب الحاكم بجانب عدد من أحزاب المعارضة الصغيرة. وانتهت المشاورات لأن يوقع أي طرف على حدة مع مبيكي إعلان مبادئ للحوار استجاب لجزء من مطالب المعارضة مثل كفالة الحريات وإطلاق سراح المعتقلين والمحكومين السياسيين. وبعدها حدد امبيكي الثاني عشر من الشهر الحالي موعدا لجولة جديدة بين الخرطوم وقطاع الشمال والثاني والعشرين منه موعدا لمفاوضات مماثلة مع حركات دارفور بهدف التوصل لاتفاق وقف عدائيات يمهد لانخراط حركات التمرد في عملية الحوار الوطني الشامل. لكن مرة أخرى وبعد نحو أسبوع من المفاوضات، أعلن مبيكي تأجيل المفاوضات لأجل غير مسمى مع تمسك كل طرف بمواقفه السابقة. وقال امبيكي إنه سلم الطرفين مقترحات للحل وأنه في انتظار تشاور أي طرف مع قادته لإعلان موعد الجولة الجديدة التي رأى أنها ستكون "قريبا". وقال أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم حاج حمد محمد خير، إن "عدم إحراز تقدم في جولة المفاوضات بين الحكومة وقطاع الشمال سيؤثر سلبا على الجولة المرتقبة مع حركات دارفور وعملية الحوار الوطني في مجملها". خلل في التفاوض وأشار حاج حمد في حديثه لوكالة "الأناضول" إلى ما يصفه ب"الخلل في عملية التفاوض" قبل أن ينصح الوسيط الأفريقي ب"تجميع كل الفرقاء السودانيين في طاولة واحدة للوصول لحل شامل وجذري لكل أزمات البلاد". وأوضح حمد أن "قطاع الشمال لن يقبل بحصر التفاوض على قضايا ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق فقط لأن ذلك سيفقده حلفاءه ممثلين في حركات دارفور وحزب الأمة القومي". ومضى قائلا "قطاع الشمال يدرك أن حصر التفاوض في المناطق التي يقاتل فيها يضعف موقفه التفاوضي لكن بتنسيقه مع بقية الحركات المسلحة وأحزاب المعارضة يخلق توازن قوى مع الحزب الحاكم بتشكيله لقوة ضغط حقيقية". ورجح أستاذ العلوم السياسية أن "تفشل أيضا الجولة المرتقبة مع حركات دارفور لأنها تتبنى أيضا وجهة النظر التي يتبناها قطاع الشمال ولا يمكن أن ترضى بحصر التفاوض على قضايا دارفور فقط". واستبعد حمد إحراز تقدم في عملية الحوار الوطني على المدى القريب قائلا "كل الأطراف السودانية في الحكومة والمعارضة تفتقر للحد الأدنى من المسؤولية الوطنية، وخياراتها لا تراعي المصلحة الوطنية ومرهونة بأجندة خارجية"، على حد قوله. وأبدى أمله في "تترك كل الأطراف سياسة عض الأصابع والاعتراف بعمق الأزمة لحلها".