مجدي شندي لم يعد ينقص مراجع الإفتاء المصرية الرسمية شيء إلا أن يقولوا كل ما تفعله السلطة حلال وأن أفرادها معصومون، وأن كل ما تقوله حق وسواه الباطل.. أظن أن هذه ستكون فتوى جامعة مانعة تريحهم وتريحنا من الافتاء «القطاعي» الذي تلهث به هذه المراجع لنيل الرضا، مدفوعين في أن ذلك باعتقاد أن باب التوبة لله مفتوح بينما يغلق الحاكم ابوابه في وجوههم إن أغضبوه.
تثبت أحداث الشهور الأخيرة أن مراجع الفتوى في القاهرة حددت لنفسها أو حددت لها جهة مجهولة دورين أساسيين.. إما الهاء الناس عن مشاكل حياتهم وواقعهم المتراكمة كما يتضح من فتاوى مثل إرضاع الكبير أو شرب بول النبي الكريم (تنزه عن ذلك)..
وإما تبرير اعمال السلطة ليس فقط على مستوى كبار شخصياتها، وإنما نزولا إلى أفراد من جهاز الشرطة لم يكونوا يحلمون بأن يحللهم خطيب زاوية صغيرة من خطاياهم على نحو ما يفعل شيخ الأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية.
وبلغ الهزل بمراجع الإفتاء إلى حد أنه عندما تصدم سيارة شرطة مواطنة مصرية وتقتلها تحت عجلاتها لأنها حاولت اعتراض طريق السيارة كي لا تذهب بزوجة أخيها إلى قسم الشرطة، تصدر دار الإفتاء فتوى ممهورة بخاتم شعار الجمهورية تقول فيها إنه لا يمكن لوم السائقين لقتل أشخاص وقفوا عمدا أمام عرباتهم. ليس ذلك فحسب بل تجزم بأن القتل الناتج عن تعمد القتيل الانتحار والوقوف أمام السيارات بحيث لا يستطيع السائق تفاديه لا يعتبر قتلا خطأ.
وفي الأسبوع ذاته يشتم المفتون أن هناك ضيقا رسميا من إقدام شباب مصريين على محاولة الهجرة غير الشرعية لأوروبا والتي يلقى بعضهم خلالها حتفه غرقا، فيتطوعون للإفتاء بأن هؤلاء الشباب «ليسوا شهداء» بل «طماعون».
وذلك مجافاة لقواعد أساسية في الدين ودون بحث عن جذور المشكلة أو مراعاة لمشاعر الأسر التي فقدت فلذات أكبادها. وكان يمكن تحقيق الغرض ذاته بحض الأحياء على عدم المغامرة بحياتهم في محاولة هجرة غير شرعية، لو فطن المفتي إلى طريقة ذكية ترضي السلطة ولا تغضب الله.
وهناك فتوى ثالثة صاحبها هذه المرة الشيخ محمود عاشور الوكيل السابق للأزهر، وأثارت كثيرا من الجدل يقول فيها: « إن إسرائيل لم تعد لنا نحن المصريين دار حرب لأن هناك اتفاقيات ومعاهدات سلام بيننا وبينها» مناقضا بذلك كل الفتاوى السابقة عن قضية فلسطين وواجب جهاد الغاصبين لها المعتدين على حرماتنا وأعراضنا فيها..
ووصل الأمر ب «جبهة علماء المسلمين» إلى انتقاد مصدر الفتوى والقول إنه ليس من الرجولة والمروءة والإنسانية وليس موافقا للشرع أن توصف إسرائيل بالدار لأنها عصابات مسنودة من غيرهم وسيظل أمرها هكذا حتى يسترد العرب والمسلمون أراضيهم وأموالهم وديارهم ويجتمع على أرضها مرة ثانية شمل الفلسطينيين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير ذنب اقترفوه أو جرم ارتكبوه.
كما أفتى الشيخ رشاد حسن خليل عميد كلية الشريعة والقانون السابق بان التجرد من الملابس اثناء المعاشرة الزوجية يبطل عقد الزواج. وأفتى شيخ آخر بأن الزوج إذا قال لزوجته «أنت طالق» بالعامية القاهرية التي تنطق القاف همزة، فإن طلاقه لا يقع.
وأفتى الدكتور جمال البنا (شقيق مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام حسن البنا) بأن التدخين في نهار رمضان لا يفطر، فالإفطار ينجم عن وصول عين يمكن التحرز منها إلى جوف الصائم من منفذ مفتوح انفتاحاً ظاهراً يحس مع العمد، والعلم بالتحريم والاختيار.
وبالتالي فلا يضر وصول الرائحة بالشم إلى الدماغ، ولا وصول الطعم بالذوق إلى الحلق من غير وصول عين من المذوق.. وأن الدخان ليس «عيناً» بل هواء، وهو يمتزج بالهواء الذي لابد وأن يستنشقه الإنسان فلا يمكن الاحتراز منه.
ولا تقتصر فوضى الفتاوى على المصريين بل تمتد إلى جهات عربية وغير عربية، فإحداها تؤكد حرمة دخول المراة للانترنت إلا بحضور محرم مدرك لعهر المرأة ومكرها، كما أفتى مشايخ في نيجيريا وقرى باكستان بأن تطعيمات شلل الأطفال حرام لأنها مؤامرة من الغرب لإصابة أطفال المسلمين بالعقم، وهي فتاوى قادت إلى عودة شلل الأطفال بعد أن كان المرض أوشك على الاندثار.
كان الإمام أبو حنيفة النعمان يقول «عندما اشتهي شيئاً اشتريه حتى لا افتي الناس وفي قلبي شيء منه», أما علماء هذه الأيام فتنبيء فتاواهم أن الدنيا ملأت قلوبهم .فلم يعودوا يميزون، أو يخشون عاقبة التحليل والتحريم استنادا إلى أدلة فاسدة أو إرضاء لذوي سلطان.
نعم نحن بحاجة إلى تنقيح التراث وإلى مجتهدين حقيقيين يصدرون فتاوى تتعامل مع التحديات التي نواجهها في عصرنا، لكن الإفتاء بهذا الشكل أصبح عملا دنيويا احترافيا يبرأ منه الدين، كما هو الحال مع «ترزية القوانين» الذين تبرأ منهم العدالة في كل زمان ومكان. عن صحيفة البيان الاماراتية 13/11/2007