مكرم محمد أحمد لا يجادل أحد في أن حكومة د. نظيف قد حققت نجاحا ملحوظا في زيادة قدرة مصر علي جذب استثمارات عربية وأجنبية كبيرة علي امتداد السنوات الثلاث الأخيرة, مكنتها من أن ترفع معدلات التنمية من حدود لا تزيد علي4 في المائة عام2004 إلي7 في المائة عام2007, الأمر الذي رفع قدرة الاقتصاد الوطني علي توليد فرص عمل جديدة من200 ألف فرصة عمل في العام هي الحد الأقصي الذي تستطيع مصر تشغيله اعتمادا علي استثمار مدخراتها المحلية المتواضعة التي لا تزيد علي16 في المائة من جملة الناتج المحلي إلي700 ألف فرصة عمل, تمثل الحد الأدني الذي يمكن مصر من استيعاب معظم قوي العمل الجديدة في فرص عمل حقيقية, إضافة إلي خفض نسبة من مخزون البطالة الذي تراكم علي امتداد الأعوام العشرين الأخيرة. وما من شك في أن الحكومة بذلت جهدا كبيرا في تحسين المناخ الاستثماري وطمأنة رؤوس الأموال القادمة من خلال مجموعة القوانين الجديدة التي تنظم الضرائب والجمارك وإعادة تصدير أرباح المستثمرين إلي الخارج إضافة إلي نجاحها في تثبيت سعر الصرف الذي ظل لأكثر من خمسة أعوام سابقة في حالة من التذبذب والاضطراب المصطنع نتيجة عدم شفافية السوق, وغياب التوازن بين العرض والطلب, والضربات المتكررة للسياحة, إضافة إلي مضاربات تجار العملة الذين استثمروا غموض السوق لإيجاد طلب مصطنع علي الدولار زاد من سعره إلي ما فوق قيمته الحقيقية علي حساب العملة الوطنية. وتشير تقارير الهيئة العامة للاستثمار إلي زيادة في عدد الشركات التي تم تأسيسها أخيرا إلي ما يزيد علي16 ألف شركة, إضافة إلي أكثر من ثلاثة آلاف شركة قائمة بالفعل توسعت أعمالها, الأمر الذي أدي إلي زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر الذي كان قبل ثلاثة أعوام في حدود ملياري دولار, يذهب80 في المائة منها إلي قطاع البترول إلي11 مليار دولار لا يذهب منها سوي28 في المائة للبترول أما الباقي فيتوزع علي معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية, بنسب متفاوتة رفعت نصيب القطاع الصناعي التراكمي من الاستثمارات إلي35 في المائة, وزادت من نصيب السياحة إلي ما يقرب من14 في المائة, إضافة إلي قطاعات الاتصالات والخدمات المالية التي زاد نصيب كل منها من الاستثمار الأجنبي المباشر بما يزيد علي10 في المائة.. وعلي عكس ما يعتقد كثيرون فإن نسبة التوزيع القطاعي لرأس المال المتراكم في قطاع البناء والتشييد ظل في حدود6 في المائة, أي أن قطاع التشييد والبناء لم يكن الأكثر جذبا للاستثمارات القادمة من الخارج, حيث تمثل نسبة الاستثمار العقاري في استثمارات الدول الخمس المستثمرة الكبري في مصر,4 في المائة بالنسبة لبريطانيا أكبر مستثمر أجنبي في مصر, و8 في المائة للسعودية, و4 في المائة للإمارات, و5 في المائة للكويت, دون أن ننسي أن القطاع العقاري قطاع مهم وحيوي. ترتبط به أنشطة إنتاجية واقتصادية عديدة, ابتداء من صناعات الأسمنت والحديد إلي الأثاث والمفروشات والسلع المعمرة, فضلا عن قدرة هذا القطاع علي تشغيل عمالة كثيفة لعدد من الحرف تصل إلي90 مهنة. والأمر المؤكد أن زيادة حجم الاستثمار الأجنبي المباشر بهذه المعدلات المتصاعدة يعني زيادة المعروض من النقد الأجنبي, وزيادة احتياطياته التي وصلت الآن إلي ما يقرب من30 مليار دولار, كما يعني دخول أساليب جديدة في الإدارة مع تأسيس المزيد من الشركات, ونقل تكنولوجيات حديثة إلي عديد من الأنشطة الصناعية والخدمية, إضافة إلي تعزيز فرص المنافسة وتحسين الأداء الاقتصادي وزيادة جودة المنتج المصري ورفع القدرة التصديرية للإنتاج الوطني, لكن القيمة الكبري للاستثمار الأجنبي المباشر أنه يغطي النقص الحاد في معدلات الادخار المحلي التي لاتزال متواضعة, ويوفر لمشروعات التنمية الوطنية مصادر تمويل مباشر لا تعتمد القروض والمنح الأجنبية التي قل حجم المعروض منها علي المستوي العالمي نتيجة عزوف الدول الكبري عن الإسهام الجدي في معاونة الدول النامية, والأمر المؤكد في النهاية أنه لولا زيادة حجم الاستثمار الأجنبي المباشر لما تمكنت مصر من أن تحقق هذا العام معدل نمو يصل إلي7 في المائة يمكنها من توليد700 ألف فرصة عمل جديدة. وتقول معدلات الاستثمار لأكبر30 دولة مستثمرة في مصر, تتصدرها بريطانيا والسعودية والإمارات والكويت إن الجزء الأكبر من هذه الاستثمارات المباشرة يذهب إلي القطاع الصناعي بنسب تصل في المتوسط إلي37 في المائة, ثم القطاع التمويلي بنسبة تصل في المتوسط إلي18 في المائة, و12 في المائة للقطاعات الخدمية, و14 في المائة للسياحة, والاتصالات والمواصلات بنسبة تصل إلي8 في المائة, أما قطاع التشييد والإنشاءات فلا يكاد يصل حجم الاستثمارات المباشرة فيه إلي4 في المائة, الأمر الذي يؤكد أن النسبة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب إلي قطاعات إنتاجية كثيفة العمالة قادرة علي توليد فرص عمل جديدة ومعدلات نمو عالية. كما تؤكد مؤشرات نمو الاستثمارات في مصر الزيادة المطردة في حجم الاستثمارات الخاصة علي امتداد السنوات العشر الأخيرة التي جاوزت40 في المائة في كل من العامين الأخيرين, وحققت لأول مرة تفوقا علي مجمل الاستثمارات العامة, حيث وصل نصيب الاستثمارات الخاصة إلي حدود14 في المائة, من حجم الناتج المحلي, علي حين بقيت معدلات الاستثمار العام في حدود9 في المائة فقط من الناتج المحلي العام.. لكن المفاجأة الكبري تكمن في أن نصيب المصريين التراكمي من الاستثمارات الخاصة يصل إلي72 في المائة, علي حين يصل نصيب رأس المال الأجنبي من الاستثمارات العاملة في مصر إلي15 في المائة, أما نصيب رأس المال العربي فلا يزال في حدود13 في المائة. وإذا كانت استثمارات القطاع الخاص قد حققت نموا متزايدا علي مدي السنوات الأخيرة زاد من نصيبه من مجمل الاستثمارات إلي حدود تتجاوز62 في المائة, فإن تحسنا مطردا قد حدث أيضا في أداء قطاع الأعمال1640 شركة, رفع إيراد نشاطها الجاري إلي44 مليار جنيه, وهبط بعدد الشركات الخاسرة إلي حدود55 شركة تقرب خسائرها من ثلاثة مليارات جنيه في العام, مقابل109 شركات ناجحة حققت أرباحا جاوزت4 مليارات ونصف المليار جنيه, في الوقت الذي هبطت فيه المديونيات المتراكمة لشركات قطاع الأعمال العام لدي البنوك علي امتداد الأعوام الأربعة الأخيرة من31 مليار جنيه إلي عشرة مليارات جنيه نتيجة تسوية المديونية من أرباح الشركات وعائدات الخصخصة, التي حققت وفرا لهذه الشركات جاوز3 مليارات جنيه في العام, كانت تذهب فوائد لديون متراكمة, وإذا كان عائد الخصخصة خلال هذه الفترة قد وصل إلي33 مليار جنيه فإن17 مليارا منها ذهبت إلي الخزانة العامة لمواجهة عجز الموازنة, علي حين ذهبت9 مليارات جنيه لصندوق إعادة هيكلة شركات القطاع العام الخاسرة وتصحيح هياكلها المالية وتمويل مشروع المعاش المبكر. ورغم هذه المؤشرات المهمة التي تؤكد زيادة مطردة في معدلات التنمية, تصل الآن إلي الحدود التي تسمح بمواجهة جادة لمشكلة البطالة, كما تؤكد زيادة إسهام رأس المال الخاص وتفوق حجم استثماراته لأول مرة علي حجم الاستثمارات العامة بما يشير إلي قدرة القطاع الخاص المتزايدة علي قيادة عملية التنمية, وتحسن المناخ الاستثماري الذي شجع علي جذب هذا الحجم المتزايد من الاستثمارات المباشرة, إضافة إلي التوزيع المتكافئ للاستثمارات المتاحة علي القطاعات الإنتاجية المختلفة, خصوصا الصناعة التي تستطيع رفع معدلات التنمية علي نحو مطرد وتوليد فرص عمالة كثيفة, فضلا عن الإصلاح الحقيقي للبنوك نتيجة حصولها علي جزء كبير من مديونياتها المتراكمة من عائدات الخصخصة بعد أن كان معظمها قد خسر رأس ماله بالكامل, كما أن مجمل الصورة الاقتصادية يؤكد أن الاقتصاد الوطني لا يزال في أيد مصرية, لأن رأس المال المصري الخاص والعام يسهم بنصيب جاوز72 في المائة من حجم التدفق الاستثماري علي مشروعات التنمية الوطنية.. رغم هذه المؤشرات المهمة ثمة خلل واضح في توزيع عائد التنمية يتطلب التصحيح, بما يضمن تحسين أحوال الفئات الأقل قدرة, وزيادة الحد الأدني للأجور, وردم الفجوة الكبيرة في الدخول التي تجعل الأغنياء يزدادون غني والفقراء يزدادون فقرا, ومعالجة التضخم الذي يثقل كاهل الفقراء ويبتلع زيادات الأجور المحدودة. غير أن هذه المؤشرات المهمة ينبغي ألا تلهينا عن مشكلات صعبة تتعرض لها قطاعات إنتاجية رئيسية أبرزها الزراعة, التي تعاني زيادة أعباء التكلفة وارتفاع أثمان جميع المدخلات من بذور وسماد ومبيدات, فضلا عن ارتفاع أجور العمالة, بما يفرض ضرورة إصلاح شبكة التعاونيات وبنوك القري والقضاء علي خلل توزيع الأسمدة والتفكير الجاد في عون المزارعين للحفاظ علي محاصيل أساسية مثل القطن الذي يهدد مصيره عزوف غالبية الفلاحين عن زراعته, وكذلك الأمر في عديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تعاني نقصا حادا في التمويل نتيجة التوزيع غير العادل للائتمان في البنوك, الذي لا يزال رغم التجارب المرة الكثيرة يذهب معظمه إلي أصحاب المشروعات الكبري, رغم أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة تستوعب النسبة الأكبر من العمالة المصرية, وتكاد تكون مدارس الحرف وصناعات أساسية تشكل جزءا مهما من الناتج المحلي, وتستطيع أن تضاعف من حجم الصادرات إلي الخارج, من الأثاث والأحذية والملابس الجاهزة والمفروشات والسجاد وصناعات وحرف تقليدية عديدة, إذا ما توافر لها عون فني مستمر يمكنها من تطوير الإنتاج وتحديثه. وأظن أنه من الضروري أيضا أن نعيد فرض بعض الكوابح علي فكر الخصخصة الراهن, بما يحد من سيطرة الأجانب علي البنوك ويحدد نصيب المستثمر الرئيسي في صناعات أساسية واستراتيجية ينبغي أن تكون في أيد مصرية, تشل قدرة المستثمر الأجنبي علي التحكم في السوق, خصوصا في صناعات الدواء والأسمدة والدقيق والغذاء كي لا يتكرر ما حدث في صناعة الأسمنت والتفكير في تطبيق قانون الشركات المساهمة علي كل شركات قطاع الأعمال لتحسين قدرتها علي المبادرة والمنافسة كما حدث مع المقاولون العرب أو طرح أسهمها لاكتتاب شعبي واسع يمكن كل مواطن من الحصول علي سندات أو أسهم تضمن الخزانة العامة لها حدا معقولا من الربح, لكن أخطر المهام المطلوبة من الحكومة الآن هي تصحيح السوق وتفعيل قوانين المنافسة التي تمكنت الاحتكارات المسيطرة من تعطيلها في غيبة وجود آليات فاعلة تمنع الاحتكار, وتحدد هامش ربح معقولا يتكافأ مع أسعار التكلفة, وتوازن بين حقوق المنتج والمستهلك, وتكبح جماح عصابات السوق السوداء التي تتحكم في العرض, وتخفي السلع, وترفع الأثمان دون مبررات معقولة, وتصطنع الأزمات, الأزمة تلو الأزمة, لكي تحقق أرباحا مهولة علي حساب المجتمع. عن صحيفة الاهرام المصرية 22/9/2007